آخر تطورات التحقيقات الجارية في واشنطن بخصوص تدخل الروس في الانتخابات الرئاسية وعلاقة حملة ترامب بها يؤكد مفارقة مهمة في أداء الرئيس الأميركي. فعلى الرغم من أن ترامب يعتبر الإعلام عدوه الأول إلا أن تطورات الأحداث تكشف، المرة بعد الأخرى، أن أداء الرئيس نفسه هو الذي يجلب عليه المتاعب، حتى دون أي دور للإعلام. آخر صور تلك المفارقة هو ما ترتب على قرار العفو الذي أصدره الرئيس. فقد أصدر ترامب قراراً بالعفو عن رجل أمن يدعى جو آربايو، معروف بتوجهاته المعادية للأقليات، وكان قد صدر ضده قرار إدانة، وينتظر المحاكمة بخصوص الدور الذي لعبه في التعامل مع الأميركيين من أصول لاتينية في ولايته أريزونا. فالرجل كان يلاحق أصحاب البشرة الداكنة ويقوم بتوقيفهم أو حبسهم خارج إطار القانون، لمجرد الاشتباه، بسبب لون بشرتهم، في أنهم من المهاجرين غير الشرعيين. وهناك عشرات الشهادات ممن تعرضوا للتوقيف والحبس تكشف عن تعذيب وظروف غير آدمية تعرضوا لها من جانب آربايو. وقد صدر للرجل أمر من محكمة فيدرالية بالتوقف عن ذلك السلوك. إلا أن آربايو لم ينفذ حكم المحكمة فصدر ضده أيضاً ما يسمى بقرار «احتقار القضاء». ولأن آربايو متهم على نطاق واسع بالعنصرية في التعامل مع غير البيض وخصوصاً ذوي الأصول اللاتينية، فقد كان قرار ترامب بالعفو عنه والثناء عليه علناً صادماً لغير البيض في الولاية بل وفي عموم الولايات المتحدة. لكن الواضح من متابعة أداء الرئيس الأميركي عبر شهوره الأولى أنه ليس معنياً سوى بإرضاء قاعدته الانتخابية التي لا تزيد على 35% من عموم الناخبين الأميركيين والذين لنسبة كبيرة منهم موقف رجعي من المسألة العرقية والإثنية عموماً. لكن ما رفع من حدة الأزمة أن قرارات العفو تعتبر من الصلاحيات المطلقة للرئيس الأميركي، أي لا تخضع للمراجعة من جانب المؤسستين التشريعية والقضائية. لكن تلك القرارات تمر قبل صدورها بإجراءات مطولة داخل المؤسسة التنفيذية نفسها، حيث يشترك في فحصها قانونياً جهات عدة، وهو ما لم يحدث بالنسبة لقرار ترامب. غير أن الأهم من ذلك كله هو أن القيد الأساسي على الرئيس فيما يتعلق بقرارات العفو قيد سياسي بالدرجة الأولى. صحيح أن الكثير من قرارات العفو الرئاسية تاريخياً كانت جدلية، إلا أنها ظلت طوال الوقت محكومة بالبعد السياسي أي مدى تأثيره على لحمة المجتمع الأميركي وعلى المقدرات السياسية للرئيس وحزبه. ولعل ذلك هو السبب وراء لجوء الرؤساء الأميركيين عادة لاستخدام سلطة العفو في نهاية فترة الرئاسة لا في العام الأول للإدارة كما فعل ترامب. غير أن قرار العفو فتح على ترامب باباً آخر تماماً، إذ هو أعاد للأذهان التقارير التي كانت قد كشفت منذ فترة عن أن ترامب سأل مستشاريه القانونيين عن سلطاته القانونية بخصوص العفو عن نفسه وعن أفراد عائلته والمقربين منه فيما يتعلق بالتحقيقات التي يجريها روبرت مولر المحقق الخاص بخصوص التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية، واحتمالية التنسيق بين الروس وحملة ترامب الانتخابية. لذلك ما إن أصدر ترامب قرار العفو حتى شرع روبرت مولر في التعاون الوثيق مع أحد رموز النيابة الأقوياء بولاية نيويورك لفحص كل ما يتعلق بدور المدير السابق لحملة ترامب الانتخابية، بول مانافورت، والذي كان قد استقال في أوج الحملة بعدما تبين علاقاته الوثيقة بالروس. واختيار مولر لشخص إريك شنايدرمان تحديداً له دلالة مهمة. فكممثل لنياية نيويورك، كان شنايدرمان هو الذي حقق في ممارسات التدليس بجامعة ترامب بالولاية، واستطاع أن يجبر ترامب العام الماضي على تسوية الأمر عبر تسديد 25 مليون دولار لإغلاق القضية. لكن المغزى الأهم على الإطلاق للتعاون مع شنايدرمان هو أن دخول نيابة ولاية نيويورك على الخط في التحقيقات الجارية معناه أن يتم التعامل مع ما قد يسفر عنه التحقيق مع مانافورت من تجاوزات قانونية على أنه جريمة على مستوى الولايات لا على المستوى الفيدرالي وحده، وهو ما يحرم ترامب من استخدام صلاحيته للعفو عن مانافورت لأن العفو الرئاسي لا يشمل سوى من يتم الحكم عليهم من جانب المحاكم الفيدرالية لا محاكم الولايات. وخطورة ذلك التطور هو أن تحويل التحقيق لمستوى الولايات، فضلاً عن المستوى الفيدرالي، معناه أن يدرك مانافورت أن الرئيس لا يمكنه العفو عنه، وبالتالي يضطر للتعاون الكامل مع جهات التحقيق أملاً في تخليص نفسه، الأمر الذي قد يؤدي للكشف عن معلومات تدين المزيد من المقربين لترامب أو عائلته بل وربما الرئيس نفسه. بعبارة أخرى، فإن ترامب الذي كثيراً ما يتخذ ما يحلو له من قرارات دون الرجوع لمستشاريه ويصدر على تويتر تصريحات لا يراجع فيها أحداً يفتح على نفسه أبواب المساءلة القانونية.
مشاركة :