الخميس، كان موعد مريم مع المفاجأة التي أعدّتها صديقاتها؛ احتفالًا بعيد ميلادها الحادي والعشرين، ها هي قد أتمّت سنّ الرشد، كانت قد استخرجت هويّتها الخاصّة منذ أربع سنوات، لكن أسرتها لم تقتنع بعد، أن الفتاة الصغيرة ذات الضفائر قد أضحت على عتبات العقد الثالث من عمرها، تُرى ماذا ستهدي لها صديقاتها؟ أدوات تجميل، أم فستانًا جديدا، أم لعبة كما يفعل والدها كل عام، كل أفكارها حول هدايا صديقاتها لم تسعفها لتوقّع المفاجأة التى أعدّها رفقاء سيرها في شوارع القاهرة، والوقوف مطولًا أمام متاجر بدلات الرقص. بدلة رقص مكوّنة من قطعتين، مطرّزة الصدر، مشرشبة الجوانب، زهرية اللون، هكذا كانت تخبرهم عن تفضيلاتها، حينما تلمع عيناها أمام الألوان "أنا بحب اللون الأزرق وأنا برقص بحس إني زي الحوريات"، فرحت مريم بهديّة الصديقات، اللواتي أخبرتهن أن أمنيات سن الرشد أضحت قابلة للتحقّق الآن، لكن ما هي إلا ساعات قليلة بعد وصولها للمنزل ورؤية العائلة للبدلة حتى انهارت أمنيتها: "بابا قطعهالي وقاللي ناقص كمان تروحي ترقصي بيها في الكباريهات.. لما تتجوّزي ابقي إلبسي اللي انتي عاوزاه". كما السفر، والمبيت لدى الأصدقاء، والذهاب إلى الأقارب بمفردها، صارت بدلة الرقص من المحرّمات في حياة مريم حتى تتزوّج، نصف الدين الذي ستكتمل به حياتها، أضحى حدوثه هو أمنيتها الوحيدة: "كنت فاكرة إني لما هتجوز حياتي هتتغير وهسافر واتفسح واشتري بدلة رقص..وياريتني ما اشتريتها". تتذكّر المرأة التي صارت على أعتاب الأربعين، "أوّل مرّة قرّرت أرقص لجوزي في شهر العسل فاجأني أنه ما بيحبش الرقص، وإنه مش شايف الرقص حاجة مهمّة للست"، حالة الإحباط التى أصابت مريم في شهر العسل، دفعت البدلة الزرقاء إلى الدولاب لأكثر من عشر سنوات، حتى تذكّرتها ذات ليلة، وقرّرت أن تعيد الكرّة لكن هذه المرّة لنفسها فقط وأمام مرآتها على أنغام الست "غلبت أصالح في روحي". الرقص، ذلك الخروج عن دائرة الجسد، للتحليق في ملكوت الروح، لا تعرف الفتيات في مصر الرقص الشرقي كمثير جنسى، كما تصوّره خيالات الرجل الشرقى عمومًا، والمصري خصوصًا، بل هو تخليص من مثقلات الروح، وتفان في عالم التجلي، يُصبح في أحيان كثيرة بديلًا عن البكاء والصراخ، لجوء النساء والفتيات إليه في تجمعاتهن دليل على الحريّة وغياب السلطات والقوانين الأسرية، والمجتمعية. في "دولاب" الكثيرات منهن مكان مخصّص لرقصة منسية، يتذكّرنها حين الفرح، وفي حالات الحزن، تتحوّل كل ملابسهن لبدلة رقص، كما تحكي إيناس، الفتاة التي فاتها قطار الزواج، لكن لم تفتها البدلة "أمي بتجهزني من وأنا في الثالثة أعدادي، دولابي اتملا قمصان نوم وهدوم وملايات ومفارش ومحدش جابلي بدلة رقص، لكن أنا جبتها لما تميت الـ 30 وما اتجوزتش وبهيص بيها أنا واصحاب] وساعات لوحدي"، كبديل عن الاكتئاب والحسرة على ضياع العمر، اختارت إيناس أن يكون متنفّسها هو الرقص: "أنا من يوم ما اشتريت البدلة وأنا تقريبًا مفيش أسبوع بيمرّ غير لما ألبسها وافرّح نفسي بيها". في القاهرة الفاطمية، وعلى مقربة من الجامع الأزهر ومسجد الإمام الحسين، تزدهر تجارة بدلات الرقص الشرقي، تنتشر المحال الصغيرة التي تعلّق أزياء الرقص مختلفة الأنواع والأشكال والأحجام، يعرف الجميع تلك المحال الصغيرة، التى تُبهر المارّة، سواء كانوا من السيّاح أم من أهل المدينة العاشق أهلها للرقص. في فترة ما من التاريخ القريب؛ هُدّدت تلك المحال بالغلق بتهمة نشر الفسق والفجور، غاب المهدّدون وبقي الرقص، وارتفع ثمن البدلة للمحترفين من 500 جنيه إلى خمسة آلاف جنيه، أما بدلات الهواة من الفتيات المقبلات على الزواج، أو هؤلاء الأخريات المقبلات على الحياة، فيتراوح ثمنها بين الخمسين جنيهًا، ونحو الألف جنيه؛ بحسب الشكل والموديل المطلوب، سواء كان عصريًا "معجرما"، أم قديمًا يحاكي بدلات الكاريوكا. أمام مئات الأثواب من التلّ الملون، والشيفون المطرّز، والساتان الناعم، يجلس الحاج فؤاد، يصرّ دائمًا على لقبه "الحاج"، رغم عمله في حياكة بدلات الرقص منذ ثلاثين عامًا، حج فيهم إلى بيت الله الحرام ثلاث مرّات، واعتمر خمسًا، وصنع المئات من أزياء الرقص الشرقي التي تجوب العالم من الولايات المتحدة إلى كندا والبرازيل، وألمانيا، وكذلك لبنان وتركيا وحتى أستراليا. يتعامل الرجل الستيني بحرص شديد على الأقمشة الزاهية التى يصنع منها أزياءه فى تلك الورشة التي تطل على مسجد الإمام الحسين، يرتفع أذان المغرب، فيترك الحاج فؤاد "الترتر" الملوّن، وأما أكوام خرج النجف المستخدمة في التطريز، فيضعها جانبا بعناية، ثم يمسك مسبحته ويذهب للوضوء، يؤدّي الصلاة ويعاود العمل بعد تسع وتسعين تسبيحة. البدلة التي يحيكها الحاج فؤاد اليوم، مصمّمة خصيصًا لراقصة متفرّدة، لا يصنع منها سوى واحدة فقط بالشكل واللون والتطريز نفسه، لهذا فثمنها يرتفع عمّا سواها من البدلات لغيرها من الراقصات: "دي بدلة أهمّ رقّاصة في مصر بس مقدرش أقول اسمها"، أسرار الزبائن لا تخرج من شفاه الحاج الستيني، فقد علّمته آداب المهنة أن "الراقصة تتعرف من بدلتها"، يوضّح الحاج فؤاد فارقًا بين زيّ الراقصة المحترفة، وبين زي الرقص الذي تقبل عليه الفتيات في مصر "بدلة الرقص زي المية والهوا للبنات، ودلوقتي بنعمل منها مقاسات للأطفال ..لكن بدلة الرقّاصة المحترفة بتعتمد على الإثارة أكثر..أما البنات بنعملهم بدل ترقصهم حتى لو غطوا جسمهم كله". الجلابية البلدي وجلابية "نانسي"، هي أكثر الأشكال مبيعًا للسيدات المصريات، كما يتحدّث الحاج فؤاد: "أصل الستّ من دول بتتكسف، واتعودوا أن الرقص حاجة عيب فبيغطوا نفسهم بالجلاليب"، يحكي خبير صناعة بدلات الرقص عن إقبال النساء على البدلة الشرقية من جميع الأعمار: "في ستات بتيجي تشتري بدلة لبنتها في جهازها ألاقيها عينيها متشعلقة على البدل، وروحها بتهفهف مع كل بدلة بنتها تقيسها وهي ماشية ادتلها بدلة هدية تناسب جسمها فرحت بيها أكتر من بنتها"، تعامل الحاج فؤاد مع النساء جعله قادرًا على تتبّع أحلامهن كمعرفته لأذواقهنّ تمامًا: "الرقص للأسف الرجالة في مصر مش بيقدّروه صح، ورغم أنهم بيحبّوا يشوفوا الرقّاصات، لكن ستاتهم وبناتهم خط أحمر، ونادرًا لما تلاقي رجل دلوقتي بيهتم برقص مراته زي زمان". - تم نشر هذه التدوينة في موقع ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :