أكد الناقد د. السهلي عويشي أنّ المتتبع للإنتاج الروائي الجزائري المكتوب باللغة العربية، سيُدرك، لا محالة، حجم التحوُّلات العميقة التي يراهن عليها الخطاب الروائي الجزائري، من منطلق أنه خطاب يعي سؤال الكتابة المستمرّ، والمستفزّ، بغية التجاوز والتطوُّر لمعانقة فضاءات أرحب، وأوسع للإبداع الخلّاق البعيد عن التقليد والاجترار. وقال في كتابه "تحولات اللغة والكتابة في ثلاثية أحلام مستغانمي" أنه رغم حداثة التجربة الروائية الجزائرية، إذا ما قورنت مع نظيرتها بالمشـرق العربي، أو مع بعض أقطار المغرب العربي، كالمغرب وتونس، فقد استطاعت طرح أسئلتها الخاصة، وإشكالاتها المتميزة، لإفراز خصوصيتها على مستوى الخطاب والممارسة، والدارس للخطاب الروائي الجزائري سيدرك حجم التحوُّل والتطوُّر الذي تعيشه الرواية الجزائرية. ولفت السهلي في كتابها الصادر عن "الآن ناشرون وموزعون" إلى أن من مظاهر هذا التحوُّل أن الرواية الجزائرية استطاعت من خلاله تجاوز المألوف والسائد، بإعطائها أهمية بالغة للمتخيّل، فيما يتصل بالطفولة، وبانفتاحها على المتخيّل الشفوي المحلي من عادات وتقاليد، وانفتاحها كذلك على التاريخ والخطاب الصحافي. ورأى أن الرواية الجزائرية الجديدة تزامنت مع بداية الوعي الحقيقي بمدى التحوُّل والانحراف الخطير عن مبادئ الثورة، وذلك ما عبَّرت عنه مجموعة من النصوص في انتقادها اللاذع للواقع الجزائري، أثناء تناولها لثيمة الثورة بعيداً عن كل تقديس، كما كان الأمر في السابق، إضافة إلى ذلك فشل الخيارات السياسية التي لم تعمل سوى على تعميق وتكريس الاختلالات والتناقضات الاجتماعية الصارخة إثر فشل مشـروع الإصلاح الزراعي، والاشتراكية، وكذا الفشل الذريع للمسلسل الديمقراطي، وما ترتَّب عليه من عنف وعنف مضاد. أما على المستوى الخارجي، فقد شهدت هذه المرحلة المزيد من الانكسارات، والهزائم على الساحة العربية التي عملت على تعميق جرح المواطن العربي الذي لم يضمَّد بعد؛ جرح هزيمة يونيو/حزيران 67، والتي "لم تشكِّل مجرد حدث عابر، ولا محصِّلة من محصلات الواقع الذي تبلور منذ مطلع القرن، وإنما كانت حدثاً ذا أهمية قصوى في التاريخ العربي"، حتى هزّته أحداث يونيو/حزيران 82، إثر الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وأحداث حرب الخليج الثانية، وما ترتب عليها من تنازلات تلو التنازلات، وانكسارات تلو الانكسارات، إضافة إلى كل هذا، انهيار منظومة المعسكر الشرقي وما كان لها من تأثيرات سلبية على الساحة العربية، والتي عجّلت بانهيار منظومة الحزب الوحيد في الجزائر، إلى جانب هذا عرفت هذه المرحلة اتصالا بالثقافة الأخرى، خاصة الفرنسية التي كانت قد قطعت أشواطاً بالغة الأهمية في الرواية الجديدة. وأضاف "في ظل هذه المعطيات السوسيو ثقافية، تطوَّر الخطاب الروائي في الجزائر، فكانت بداياته الأولى مع مجموعة من النصوص كرواية "التفكك"، لرشيد بوجدرة سنة 1985، ورواية "السعير" لمحمد ساري سنة 1986، لتتطور الرواية الجزائرية، وتتخذ ألواناً وأشكالاً مختلفة، من سماتها الأساسية التخييل الحافل بالحركة، والحوار، والسخرية، والنقد، ومعانقة اليومي، لتتملَّص من التشخيص الوصفي لواقع أصبح منفلتاً، وزئبقياً، يصعب المسك به، ومنفتحة كذلك على كل ما هو حداثي، لتتمكن من خلخلة مجموعة من الثوابت في الرواية التقليدية، مؤسسة لنفسها مسالك جديدة مكَّنتها من التجاوز المستمر لأي قانون قد يقيِّدها، أو يحدّ من طموحها، وحركيتها، لتستطيع فرض نفسها في دائرة التلقي العربي، وبالتالي لتفرز خصوصيتها وتميُّزها، ومن أن تصوغ أسئلتها وإشكالاتها الخاصة بعيداً عن كل استنساخ وتكرار". وقال إن المتن الروائي المتعلق بثلاثية أحلام مستغانمي: "ذاكرة الجسد"، "فوضى الحواس"، "عابر سرير"، لا يمكن إلا أن يتحرك في هذا العالم، ويتفاعل معه، بعيداً عن أي تنميط أو اجترار على مستوى الأبنية، والهياكل، في أفقٍ تجريبيّ سمته القطيعة والاستمرارية: القطيعة مع كل ما هو ميت ومتجاوز، والتطوير لكل ما من شأنه أن يغني النص ويثريه. وأهمّ ما عمل السهلي على مقاربته في كتابها أنها اشتغلت على دراسة اللغة في المتن الروائي، باعتبارها أهم مكوِّن من مكونات الخطاب الروائي، وأهم الأسس التي عملت من خلالها مقاربة اللغة في المتن الروائي المدروس: أولاً: على مستوى التعدُّد اللغوي، ففي هذا الجانب سأحاول مقاربة ذلك التعدُّد والتنوع الذي تحفل به اللغة الروائية، في انفتاحها على مختلف العوالم، وهو ما يتمظهر، كما سنرى لاحقاً، إما في اللغات الفردية، أو في اللغات الاجتماعية، باعتبارها تدفع نحو التميُّز والتفرُّد، سواء ارتبطت بالفرد أو الجماعة. ثانياً: لغة الحوار الاستبطاني الذاتي، وفي هذا الصدد درس ما يمنحه هذا النوع من الحوار من إمكانات، وطاقات، لممارسة فعل البوح من جهة، ومن التعرُّف على الشخصيات من جهة ثانية. ثالثاً: على مستوى شعرية اللغة، وفيه حاول مقاربة مختلف العناصر التي تدفع باتجاه شعرية العمل الروائي، ولعلّ ذلك ما سألامسه انطلاقاً من شعرية المجاز، والصورة الشعرية، والإيقاع، باعتبارها تشكِّل أهم خصائص النص الشعري. وعمل السهلي على مقاربة ما يتعلق بالزمان والمكان، باعتبارهما أحد الأعمدة الأساسية لبناء أي عمل روائي، ورأى أن أهم تقنية اعتمدتها مستغانمي في تأثيث الزمن الحكائي وشغل فضاءاته، هي تقنية الاسترجاع، والتذكر عبر تدخلات الأحداث، باستعادة ما مضى منها، وقالت "لعل هذا ما نواجهه منذ اللحظات الأولى لولوجنا عوالم الثلاثية الروائية: تقول مستغانمي في رواية ذاكرة الجسد "ما زلت أذكر قولك ذات يوم..".. وفي رواية فوضى الحواس "تذكر أنه يومها أطبق على الحزن ضحكة ومضى دون أن تعرف تماماً ماذا كان ينوي أن يقول".. أو في المقطع التالي من روايتها "عابر سرير": "أذكر يوم صادفتها في ذلك المقهى...".. ليعرف الخط الزمني المؤطر للمحكي مجموعة من التموجات، والتداخلات بين الماضي، وحاضر السرد، لتلجأ الروائية في ثلاثيتها إلى "إحداث تفاوت واضح بين السرد وزمن الأحداث، والغاية من ذلك هي إرضاء الحس بالجديد لدى القارئ، وتشغيل ملكته المنطقية، والرياضية، وجعله بصورة عامة يواجه عملاً مميزاً عما هو مألوف لديه، عملاً يخلخل أفق انتظاره" مما ينشأ عنه كسر في التتابع الطبيعي للأحداث. كما درس شخصيات الثلاثية باعتبارها المنتِجة للأحداث والمساهِمة في بنائها، حيث خلص إلى إنّ مستغانمي عملت في بناء شخصياتها على أن تمتح مما حولها، مما انقضى ومما يجدّ، من معارفها، وأصدقائها، وذويها، وخصومها، فإذا بالشخصية الروائية حقيقية جداً ومتخيَّلة جداً، واقعية موهومة، خاصة إذا ما علمنا أنّ الرواية هي تأمُّل في الوجود عبر أشخاص خياليين. محمد الحمامصي
مشاركة :