د. عبدالفتاح إدريس الأسرة هي النواة الأولى للمجتمع ولبنة بنائه ودعامة من دعامات أسسه الراسخة، بصلاحها ينصلح حال المجتمع، ولهذا الدور الذي تلعبه الأسرة في تأسيس صرح المجتمع أو انهياره، اهتم الإسلام بها اهتماماً كبيراً وتعهد تكوينها وهي في بداياتها الأولى، ونلمس هذا من حرص الإسلام على أن يكون أساس تكوين الأسرة وهو الزوج والزوجة من الصلاح، بحيث تستقيم أحوال الأسرة باستقامتهما؛ فقد حض الإسلام الزوج على حسن اختيار زوجه، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك»، أي أن الإسلام رغب الرجل باختيار المرأة ذات الدين التي تتخذ الصلاح منهاج حياة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الدنيا كلها متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة»، وعدّ المرأة الصالحة سبباً من أسباب سعادة من يتزوجها، حيث قال عليه الصلاة والسلام «إن من السعادة الزوجة الصالحة، والمسكن الصالح والمركب الصالح، وإن من الشقاء الزوجة السوء والمركب السوء والمسكن السوء»، كما رغب صلى الله عليه وسلم الزوجة ووليها في اختيار الزوج المتدين الصالح ذي الخلق الكريم فقال «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض».وقد كان للمنهج الذي رسمه الإسلام في اختيار الزوجين أثر كبير في استقرار الأسر التي قامت على أساسه، وعكس ذلك ينتج عن الاختيار الذي لم يقم على أسس الإسلام، وقد حض الشارع على توخي كل ما من شأنه دوام العشرة بين الزوجين، فحض على نظر مريد الزواج إلى من يريد الزواج بها قبل العقد عليها، لأن ذلك حري بدوام العشرة بينهما إن أقدم على الزواج بها، يقول صلى الله عليه وسلم «إذا خطب أحدكم امرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل..»، وروي عن بكر بن عبدالله المزني أن المغيرة بن شعبة قال «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له امرأة أخطبها، فقال: فاذهب فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما، فأتيت امرأة من الأنصار فخطبتها إلى أبويها وخبرتهما بقول النبي صلى الله عليه وسلم فكأنهما كرها ذلك، فسمعت تلك المرأة وهي في خدرها فقالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر وإلا فإني أنشدك ألا تنظر، كأنها أعظمت ذلك، فنظرت إليها فتزوجتها»، ومعنى يؤدم بينكما، أي تدوم المودة والعشرة بينكما «إن رأى منها شيئاً أعجبه، فأقدم على الزواج بها».وقد كرم الإسلام المرأة التي يراد الزواج بها، فلم يجعل المهر الذي يقدم إليها ثمناً للانتفاع ببضعها، وإنما أمر مريد الزواج ببذل هذا الصداق إلى من يريد الزواج بها كما تبذل الهبة أو الهدية، بحيث يراعى فيها جانب السخاء وعدم انتظار العوض عليها، فقال الحق سبحانه «وآتوا النساء صدقاتهن نحلة» ومعنى النحلة أي العطية أو الهبة، ولهذا لم يحدد الشارع حداً أعلى لمهر المرأة تكريماً لها وتركاً لمساحة من التقدير والتكريم والتعبير عن إعزاز مريد الزواج لمن يريد الزواج بها، فإن هذا هو شأن العطايا والهدايا التي يقدمها الناس إلى بعضهم بعضاً، فسلك الشارع الحكيم بمهر المرأة هذا المسلك الكريم، ارتفاعاً بمكانة المرأة وإعلاء لقدرها عند من يريد الزواج بها، ولهذا فقد يبلغ المهر مقداراً كبيراً من المال، وقد راجعت امرأة عمر بن الخطاب رضي الله عنه خليفة المسلمين، حينما خطب في الناس حاثاً لهم على عدم المغالاة في المهور، إذ قالت: ليس هذا إليك يا عمر، كيف تقولها وقد قال الله تعالى «وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً» والقنطار هنا مراد به قنطار الذهب أو الفضة، وإذا كان القنطار يزيد على مئة كيلوجرام، ومع كثرته مهراً للمرأة إلا أن الآية لم تجعل القنطار هو الحد الأعلى للمهر، لأن المقدار في الآية لا مفهوم له، وإنما هو كناية عن المال الكثير الذي يبذل صداقاً للمرأة.لكن الإسلام مع ذلك حض على تيسير أمر الزواج وعدم المغالاة فيه بدون إلزام، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أعظم النساء بركة أيسرهن صداقاً»، وكل امرأة تحرص على أن تكون مصدر خير وبركة في بيت زوجها، وحتى تكون بهذه المثابة، فلا أقل من أن تيسر أمرها على من يريد الزواج بها، فلا ترهقه بكثرة ما تطلب حتى لا يضطر إلى إنفاق كل ما يملك في زيجته تلك، ثم يضطر إلى الاستدانة، والدين هم بالليل ومذلة بالنهار، والزيجة التي تكون بدايتها على هذا النحو لا يستشعر الطرفان فيها السعادة كما كانا يتخيلانها.* أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر
مشاركة :