يخيَّل إليك أنك محاط بشعور غير ودّي. موسكو تشك في الغرباء وفي الأقرباء وفي الحزبيين وفي حركة الفصول. وهذا المناخ مرتفع الحدَّة الآن؛ لأن مئات الصحافيين جاءوا من أنحاء العالم لتغطية بداية الذوبان في جليد العلاقات بين القطبين اللذين يشدّان العالم من أذنيه، كل إلى صوبه. أحسست وكأنني أسافر لأول مرة: لغة غريبة عليّ. أبجدية غريبة. ومعالم لا هي شرقية ولا غربية. ولا شك أن موسكو قد أعدَّت صورتها الآن إعدادًا خاصًا. شوارع في نظافة شوارع مونترو السويسرية. نظام أمني كامل. رجال شرطة (ميليشيا) في بذلات رمادية وقبَّعات لها خط أحمر. ولكن لا ابتسامة في أي مكان. حتى السيدات لا يبتسمن. الحزب لا يسمح. والمفقود الآخر في الفندق هو الخضار. كانت خادمة المطعم تشبه إلى حد بعيد فتاة «إنتوريست» التي استقبلتني عند محطة القطار. تشبهها في الشكل والحجم و«ميغاواط» الحنجرة. وطوال إقامتي كان لي طلب واحد: سلطة خضار. وطوال إقامتي كانت تحمل لي «سلطة روسية» بالمايونيز والتونة وشيئًا من قطع الجزر وحبوب البازلاء. تناولت من السلطة الروسية ما يكفي لبقية العمر. وكان مقهى الفندق مليئًا بالمراسلين الأميركيين الكبار، لكنني خشيت الاختلاط بهم خوف أن يكون حارس غرف المنامة في القطار وفتاة الإنتوريست في المحطة لا يزالا خلفي. وجوه تعتقد أنها لا تُرى إلا في الكوابيس. كنت قد نويت أن أحب موسكو، وأن أضيفها إلى سوار المدن المعلق في الذاكرة، لكنها كانت قد اعتادت برودة الملتقى. وجدت في سفير لبنان نعيم إميوني صديقًا ورفيقًا. ولعله كان هو أيضا ينتظر رفيقًا ما في عزلة موسكو. وعندما دعاني إلى الغداء مع سفير مصر الدكتور مراد غالب، أخبرني أنه ليس مسموحًا للدبلوماسيين بالابتعاد أكثر من 40 كيلومترًا عن موسكو، أما هو فسوف يطلب إذنًا خاصًا للتجوّل في مدن الكنوز التاريخية الإسلامية، وخصوصًا بخارى وطشقند وسمرقند. كان نعيم إميوني يعرف أنه ليس لدى سفير دولة صغيرة الكثير مما يفعله في موسكو، ولذا، انصرف إلى التعمّق في الحضارات والثقافات وتأمُّل حركة الحياة في دولة تتقاسم حكم العالم، لكن أهلها يقفون في الطوابير في انتظار مؤونة طعام يوم واحد. لذلك، أمضيت معظم العشيّات معه أصغي إلى شرح مثير لتاريخ أمّة تقلَّب عليها الدهر وتقلَّب بها التاريخ. يجب أن تبدأ بزيارة نصب لينين. ذهبت فوجدت طابورًا من طوابير المدينة في الانتظار. بعد ساعتين خرجت من الصف لأعود إلى المتروبول ومناخه القاتم ومقهى المراسلين الذين يمضون الوقت في التندّر. إلى اللقاء..
مشاركة :