الكاريزما المعظّمة في "شخصية مكة المكرمة"

  • 8/6/2014
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

الكاريزما المعظّمة في شخصية مكة المكرمة أ. حسن محمد شعيب تكاد تجمع المدوّنات التاريخية والمعرفيّة المتنوّعة عن مكة المكرمة بأن لها خصوصيتها وشخصيّتها المميزة التي انفردتْ بها وهيّأتْها لأن تكون مركز بيت الله الحرام ومولد آخر وأعظم رسله وأنبيائه الكرام عليهم السلام ، وأنها مُنْطلق خير الأمة في نشر الدعوة الخاتمة .. وكل ما اتصل بهذه المدينة المعظّمة اتصف بشيء من عظمتها ونالَهُ من خصوصيّتها شرفٌ جَهِله من جَهِل وعرَفهُ من عَرَف ! إضغط على الصورة لمشاهدة الحجم الكامل كنتُ قد قرأتُ قبل سنين استعارةً كتاب ( شخصية مكة المكرمة .. دراسة في عبقرية المكان ) للدكتور مصطفى عبد العاطي غنيمي ، ولما حصلتُ عليه حقيقةً أعدتُ قراءته مُستذكراً ومُستنهضاً بعضَ ما كان في همّتي من قوّةِ وصمودِ الهُوِيّة المكيّة عبر أزمنتِها المتلاحقة في الأجيال ؛ فقد أجاد المؤلفُ في سبر تاريخية تلك الهُويّة عبر شخصية المكان والأعلام ودورة الزمان المثقلة بالتحوّلات الكبيرة . قرأ المؤلفُ مكةَ المكرمة كوْنها شخصية حيوية متفاعلة مع الأحداث ، وباعتبارها بناءً مُتناسقاً من الأحداث والشخصيات ؛ منطلقاً من بدء نشأة هذه المدينة المقدسة في العهد الإبراهيمي حتى العهد النبوي الشريف ؛ ودارتْ دراستُه حول خمسة محاور : الأول : شخصية الإقليم المكي وأهميته وسماته . الثاني : كيفية سيطرة المبدأ العقلي على الحياة المكية . الثالث : مدى تلاؤم العقل المكي في فهم الصراع بين الحق والباطل . الرابع : هدف النبي صلى الله عليه وسلم منذ لحظة وصوله إلى المدينة المنورة هو العودة إلى مكة . الخامس : الخطوات التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه العودة . وقد تناول أهمية الاختيار الرباني لمكة في بلورة الشخصية المستقبلية لإنسان ذاك المكان المبعوث للعالمين ؛ حيث الجغرافية المركزية البعيدة عن تسلط القوى المجاورة ، وحيث البيئة المميزة لتكوين لغةٍ خالصة من تأثير اللغات الأخرى ، وخلْق عادات بمواصفات خاصة قريبة إلى الفطرة ، وقوة روحية اعتبارية في جوار البيت وحماية حماه . وأبدع في وقفته عند دعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام { ربّنا إنّي أسكنْتُ مِنْ ذُريّتِي } والسّكَن استقرار ، ولا يكونُ إلا بتآلفِ نَسيجِ سُكانِهِ ؛ وقد أجاب اللهُ دعوةَ نبيّه وخلق في أهل هذا البلد ألفةَ الناس وحبَّ المكان الذين هم جزءٌ منه ؛ فلا تكونُ مكةَ بلا أهلها ولا يكونون إلا بها ؛ ومَنْ فَصَل بينهما فقد فصَمَ عُرى متلازمَيْنِ : خُصوصيّة مكان ( أسكنتُ ) وخصوصية إنسان ( من ذريتي ) ! لقد هيأ الله مكةَ لتلك المكانة الربانية مكاناً وإنساناً وبيئةً وحياةً صدّرت للعالم النور والمعرفة وظلتْ محتفظةً بأسرارها وبركاتها لمن تهيّأتْ روحُه وسكنَ فؤادُهُ وتأدّب وعرَف قيمة الاصطفاء ؛ ومن خالَفَ ذلك نفتْهُ المُحرّمةُ وطُرِدَ غيْرَ مَأسُوفٍ عليه .. شخصية مكة مفخرة لابد من الحفاظ عليها سكاناً ومكاناً وبيئةً وحياةً كريمة وحقوقاً مُستدامَة لا نخالفُ فيها إرادة الله لهذا المكان وأهله الكرام . قسّم المؤلف الشخصيةَ التكوينية لإقليم مكة المكرمة إلى ثلاثة عناصر : الأول : الشخصية المصرية في ( هاجر ) أم إسماعيل عليه السلام . الثاني : الشخصية الشامية في سيدنا ( إسماعيل ) عليه السلام وما تناسل منه من أجداد النبي عليه الصلاة والسلام . الثالث : الشخصية اليمنية في ( قبيلة جرهم ) أول قبيلة سكنت البلد الحرام . لذلك كانت دعوة النبي عليه الصلاة والسلام وفيّةً لأصول ذاك التكوين المكي حينما دعا : اللهم بارك لنا في شامنا ، اللهم بارك لنا في يمننا وحينما أوصى عليه وعلى آله الصلاة والسلام استوصوا بأهل مصر خيراً فإن لهم ذمةً وصِهْراً .. هذا التكوين الابتدائي أخذ أبعاداً كبيرة للتوسّع حينما انطلقت الدعوة من مكة للعالمين ؛ لتصبح مكة مهوى أفئدة العالم ويتّسع الفؤاد المكي للجميع بلا تفرقة بين عربي وأعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بتلك التقوى التي ارتقتْ بتلك الشعوب لتهوي إليها الأمم . وقد حدّد المؤلفُ خصائصَ الكاريزما المكية في أربعة عناصر مهمة هي : التدين ، المحافظة ، الاعتدال ، الواقعية ؛ ليلخّص فيها الحياة الدينية والاجتماعية والفكرية والعقلية للمجتمع المكي قبل البعثة النبوية ؛ حيث كان المكيون على ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام حتى دخول الأصنام على يد عمرو بن لحي الخزاعي ، وكانوا محافظين على عاداتهم الموروثة خاصة في خدمة حجاج البيت بالسقاية والرفادة ، وكانوا منفتحين إلى حدٍ ما على المجتمعات الأخرى بحكم التجارة ووفود الحج . وأشار كذلك إلى فَرَادة النظام السياسي المكي في شبه حكومة مركزية توزّعتْ فيها المناصبُ بين القبائل : ( السقاية والرفادة ) في بني عبد مناف ، ( دار الندوة والحجابة ) في بني عبد الدار ، ( قداح الأصنام والآبار ) في بني جمح ، ( نظم القربات والنذور للأصنام والديات والغرامات ) في بني سهم ، ( الشورى ) في بني أسد ، ( حمل اللواء ) في بني أمية ، ( نظم العسكر ) في بني مخزوم ، ( السفارة ) في بني عدي . مُضيفاً كذلك أنّ إيمان المكيين بتعدد الآراء والاتفاق على أفضلها ؛ أوقف الجميع صفاً واحداً من خلال وجود دار الندوة أو المجلس الأعلى للشورى الذي كان فيه الرأي بالأغلبية ؛ فقد كان للرأي العام المكي أثره في توجيه السياسات في الإقليم كله ؛ مما أثمر ولادة تجارب إصلاحية مثل حلف الفضول الذي شهده النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأشادَ به في الجاهلية والإسلام . تلك البيئة السياسية المفعمة بالعَدْل رسمَتْ خطوط الحكمة النبوية في تعامل النبي عليه الصلاة والسلام الراقي مع أعدائه ؛ فلم يأخذ المشركين بسياسة العصا الغليظة أو أسلوب الإرهاب والقوة ؛ لأن ذلك لا يتناسب مع الشخصية المكية ، ولا يتفاعل مع الروح الإسلامية الواعية التي كان العقل والضمير لبنات حية للتفاعل معها ؛ فحافظ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك على أهله وعشيرته وصان الدماء والإنسانية جمعاء . ثم يتناول المؤلف استعداد الشخصية المكية عقلياً وفكرياً وتهيئتها قبل البعثة النبوية لتلقي القرآن الكريم ، وذلك من خلال السوق الأدبي الفريد الذي هيأه الله لمكة ؛ فجمعتْ في تلك الشخصية جواهر كلام الجزيرة العربية ، وأخذت مركز الصدارة في الحكم النقدي على النتاج الأدبي ؛ ويُرجع المؤلف ذلك أيضاً إلى نظام تربوي خاص بالمكيين لم يشاركهم فيه إقليم ؛ وهو إرسالهم أولادُهم إلى البادية فترة الرضاعة ؛ ليحصّلوا صفاءَ التلقي لغوياً وصحياً ونفسياً . وفي معرض آخر يسلط المؤلفُ الضوء على البُعد المكاني في الشخصية المكية ؛ كون مكة بعيدة نسبياً عن الساحل ؛ مما صبغ أهلها بطابع الحِدّة في الرأي ، وهي حدّة لم تصل حدّ الجفوة والغلظة عند المكيين ؛ قد هذّبَتْها حُرمة البيت العتيق الذي كان المرسى الروحي لعرب الجزيرة . وفي الختام يؤكد المؤلف على الدور القيادي لشخصية مكة ؛ بأنها وإن لم تحظَ بكونها عاصمة للخلافة الإسلامية ؛ فإنها حظيت بخروج أربعة أنظمة حكمتْ العالم الإسلامي ثمانية قرون : نظام الحكم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم . نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين . نظام الحكم في عهد الأمويين . نظام الحكم في عهد العباسيين . فقد خرج رجالاتُ هذه الأنظمة من مكة ، والعالم الإسلامي بأسره ظل متأثراً ومَدِيناً في حكمه لمكة طوال هذه القرون العديدة ؛ مما يؤكد أن روح الحكم والسيادة لا تغيب عن مكة ، وأن أصالة القيادة في ربوعها ، وهي روح دائبة دائمة لا تموت أبداً ؛ فمكة كانت وما تزال مَداً لعالمها الإسلامي ، وهي في حاجة ماسة لعودة وعيها أو عودة وعي العالم الإسلامي معها ، فكلاهما وجهان لعملة واحدة . ثم يتمّ المؤلف خاتمته بتحفيز الدارسين نحو مكة يقول : لاشك أن العقل المكي في حاجة إلى دراسة متأنية ؛ لدراسة مكوناته وانتماءاته ؛ للوقوف على كيفية إفراز هذه النخبة القيادية ، وأن على الدارسين العكوف طويلاً حول مكة لإجلاء أسرار هذه العبقرية . وفي آخر سطور الكتاب سجل المؤلف لدراسته نتائج عديدة من أهمها ما يلي : كان للتنوع السكاني في إنشاء مكة أثره في وجود عقلية متميزة تهيأت لاستقبال الرسالة الخاتمة . كان لسيطرة المبدأ العقلي المشوب بالعاطفة إرهاصاً لجَنْي نُبوّةٍ خاتمة تتسم بمنهج يتلاءم أداؤه مع هذه الروح المكية ويتفاعل بها . قدمت مكةُ نموذجاً تربوياً في رياض الأطفال غير مسبوق ولا شبيه له في التاريخ بأسره . وفي الجملة هذا الكتاب الصغير القيّم هو أحد الدراسات التي خرجتْ وطُبعت بمناسبة اختيار مكة المكرمة عاصمةً للثقافة الإسلامية عام 2005م ، وهناك غيره الكثير من الدراسات والأبحاث والكتب المتناثرة في ذات الشأن ؛ حبّذا لو وجدتْ من يلمّ شَتاتَها في موسوعة خاصة بهذه المناسبة الغالية لأول عاصمة مقدسة للثقافة . * مِن آخِرِ السّطْر : يقول د.زهير كتبي في مقدمة كتابه ( شخصية مكة المكرمة الجنسية ) : إن الإنسان المكي عندما اختلط بغيره من المهاجرين لمكة المكرمة ؛ صنع بمكة المكرمة مجمعاً حضارياً لا أبالغ إذا قلتُ ليس له مثيل في كل الأزمنة ، في مركز هذا المجمع الحضاري ظهرت الأمة المحمدية المسلمة متفردةً بلغة عظيمة ومعجزة أعظم ، صنعت تاريخاً مشتركاً مع العالم بأسره ؛ والسبب أن جغرافية مكة المكرمة وشخصيتها الجنسية البشرية ممتدة في كل الاتجاهات وعبر تواصل إنساني لم ينقطع حتى اللحظة . Shuaib2002@gmail.com ------------ مقالات سابقة http://www.makkahnews.net/articles.p...articlesid=46

مشاركة :