الزيارة الشهيرة التي قام بها القيصر وليم الثاني لقبر صلاح الدين في دمشق، دفعته إلى الأمر بتجديده ووضع شعاره على مصباح معلَّق على الضريح الصغير شبه الخفي في حديقة صغيرة تغطيه قبة مضلعة حمراء. وربما في تلك اللحظة التي أعلن فيها خليفة فرديريك بربروسا ولاءه لألد أعداء أجداده، اتسعت الفجوة بين صلاح الدين الأسطورة، وصلاح الدين التاريخي إلى أقصى مدى. وعلى أي حال، قد يطرح أي قارئ فَطِن عند هذه النقطة، السؤال الصعب: إذا كان صلاح الدين بطلاً على هذا القدر من العظمة التي نسمع عنها، فلماذا كان قبره متهدماً على هذا النحو؟ عكست حالة القبر حقيقة أعمق؛ وهي أن المسلمين أهملوا صلاح الدين قروناً عدة، وتكتب هيلندابراند وتنتقي كلماتها بعناية عن «الطريق الملتوية، في شكل يبعث على السخرية، التي سلكها المسلمون بحثاً عن ماضيهم». كان صلاح الدين الذي يرفع المسلمون مكانته إلى مرتبة المخلص في القرن العشرين أقرب إلى الشخصية التي قدمتها المخيلة الشعبية الأوروبية في القرن التاسع عشر. كان ذلك إلى حد كبير انعكاساً لاستحواذ فكرة الحروب الصليبية على الغرب. وإلى حد ما لم يشارك المسلمون أهل الغرب ولعهم بالحروب الصليبية، ذلك أن هذا المصطلح لم يستخدم في الكتابة العربية حتى منتصف القرن التاسع عشر مثلاً، وحين حدث ذلك كان إلى حد كبير مستعاراً من أوروبا، وقد تبلورت بالتدريج في القرنين التاسع عشر والعشرين فكرة التشابه بين سياسات أوروبا حالياً في الشرق الأوسط وسياسات الماضي في الوعي الإسلامي. كان كلما تسربت القصص حول الشهرة المتألقة لصلاح الدين إلى المشرق العربي زادت شعبيته بين العرب. وعلى هذا الدرب ارتبطت رؤية شعرائنا المعاصرين للآخر في أثناء استدعائهم شخصية صلاح الدين برد فعله لفعل «الآخر» وموقفه من قضايانا، فعند تقديره رموزنا كان يحتفي به الشعراء احتفاء ينم عن أهمية إقامة علاقات سلمية معه. وحدث هذا عندما مدحَ غليوم إمبراطور ألمانيا صلاح الدين فوق قبره، إذ قام الشاعر أحمد شوقي بعد شهرين من زيارة الإمبراطور بالرد بقصيدة يمتدح فيها إنجازات صلاح الدين. وحينما اعتدى الآخر كان طبيعياً أن يكون رد الفعل مساوياً لهذا الاعتداء كرهاً وبغضاً، وانجلى ذلك في موقف الجنرال هنري غورو الذي وقف على قبر صلاح الدين شامتاً، فما كان من الشعراء إلا أن أظهروا حقده الدفين. ومن المؤكد أنها ليست مصادفة أن تجيء عملية «إعادة تقديم» صلاح الدين إلى العالم العربي مع التدخل الأوروبي في المنطقة، وهو ما نكأ الجراح النفسية من جديد بعد أن ظلت خامدة قروناً عدة، وقد وضع الكاتب الباكستاني أكبر أحمد أصابعه على هذه النقطة، عندما علَّق بقوله :»لا تزال ذكرى الحروب الصليبية موجودة في الشرق الأوسط، وتلوّن الانطباعات عن أوروبا»، لارتباط الغرب الوثيق بمعظم النكبات التي أصابت الأمة، خصوصاً بعد أن سمحوا لليهود بإقامة وطن قومي في فلسطين، مروراً بإعلان قيام دولة إسرائيل، وحرب العدوان الثلاثي على مصر، ثم عدوان سنة 1967 وأخيراً احتلال العراق واتساع الجرح العربي الممتد من القدس إلى بغداد. تتخلل ذلك المجازر الفلسطينية التي ظلت شاهد عيان على قتامة المشهد العربي والإسلامي. ويلاحظ أن شخصية صلاح الدين شهدت الاستدعاء وإعادة الإنتاج والتوظيف باعتباره «الرمز المخلص» الذي طال انتظاره. ومثلها معظم الأدباء والكُتاب من ثلاثة جوانب: الأول؛ حيث يستدعى صلاح الدين لإنقاذ الأمة من براثن الاحتلال، ورأب الصدع الذي يكاد يقوّضها. والثاني: علَّق معظم الكُتاب والأدباء آمالهم على شخصية لها وجودها الحقيقي، ورأوا فيها صلاح الدين قد بُعِثَ حياً، ومن هذه الشخصيات: الملك فيصل بن الحسين، والملك سعود بن عبدالعزيز، والملك فيصل بن عبد العزيز، والرئيس جمال عبدالناصر، وكانت الشخصية الأخيرة هي الأوفر حظاً في إقامة علاقات بينها وبين القائد ذي الأصول الكردية. ويأتي الاتجاه الثالث رافضاً وجود شخصية مخلصة كائنة من كانت يعلق عليها مستقبل الأمة، وأصرّ على أن استلهام شخصية صلاح الدين منقذاً من عوامل الانتظار المخادع بدعوى أن في عودته الخلاص، وهذا يقتل طاقات اللحظة الحاضرة، ويخدّر عمل المجموع. والصورة الذهنية للحروب الصليبية اليوم تُشاهد من منظور معادٍ للاستعمار، وينظر إلى الردّ الإسلامي على الغزو الصليبي في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، على أنه مخطط يصلح دليلاً للنضال العربي والإسلامي الحديث من أجل الاستقلال، والثأر للذات العربية المأزومة. هكذا كبرت أسطورة صلاح الدين وبقيت قوية حتى اليوم. حتى ولو لم يكن هناك الكثير من المصدّقين... لكن صوت العامة كان أعلى وحسم الذاكرة الشعبية لمصلحة هذه الأسطرة المقصودة. فهل حقاً شخصية صلاح الدين هي راية المُخلّص المؤثّرة تقوم بوظيفتها لتكون بلسماً للجراح وشعاعاً يبعث الأمل في مَن خابَ رجاؤهم، وفي المحرومين من حقوقهم في العالم الإسلامي أو صوت النفير الكاذب، أم عذر للتراخي الذي ينزل بالفرد إلى مستوى مشاهد متسكع في انتظار صلاح الدين آخر، أو أوامر تهبط عليه من السماء؟ إن الجراح عميقة، ولن ينسى المسلمون الحروب الصليبية طالما ظلّت أراضيهم عُرضة للتدخل الغربي واتساع الجرح العربي الممتد من القدس إلى بغداد، والقائمة تنتظر المزيد، ولكن يبقى واجب المؤرخ أن يؤكد أن صلاح الدين كان ابن عصره، وتأثر بأحداثه، كما أثَّر فيها إلى حدٍ ما. كانت الحروب الصليبية ظاهرة خاصة، في وقت خاص من التاريخ، وتطلبت رداً خاصاً من جانب المسلمين. وعلى أي حال، إن المشاعر الخاصة التي تسبَّب فيها الصراع العربي الإسرائيلي تنفخ في نيران أسطورة صلاح الدين، وليس من قبيل المصادفة أن القرون التي كانت فيها القدس في أيدي المسلمين هي القرون التي لقي فيها صلاح الدين إهمالاً بالغاً. ونتساءل مع القارئ: إلى أين يمضي هذا بالمؤرخ الذي يحاول أن ينحّي الأسطورة جانباً ليكتب عن الشخصية التاريخية؟ يتمثل التحدّي الأساسي في ما يتعلق بصلاح الدين في أنه صار أسطورة وهو لا يزال حياً؛ حوَّله فتح القدس وإعادتها إلى الحظيرة الإسلامية، بعد 88 سنة مِن استيلاء الصليبيين عليها الشخصية الأقوى والأشهر في العالم الإسلامي، وجعل منه رمزاً لطموحات المسلمين وآمالهم بعد أن سعوا بحماسة متزايدة لاسترداد ثالث المدن قدسية في العالم الإسلامي. وفي الوقت نفسه كان الأوروبيون العائدون إلى بلادهم يعظّمون من شأن صلاح الدين، ويكرّرون الحكايات حول تصرفاته النبيلة، ما يضيف إلى الأسطورة؛ ذلك كله في حياة صلاح الدين. وكلما تكاثرت القصص والحكايات توارى صلاح الدين التاريخي الواقعي في الظلال أكثر فأكثر، خلف ذاكرة شعبية عربية تمجّد القوة إلى حد التصنيم، والحل أمامنا يتمثّل في انتشال صلاح الدين التاريخي، وتجاهل المتداول وقراءة سيرته وعصره قبل فتح القدس، وريتشارد وعكا، والحماة الصليبية الثالثة، لنفرّق بين الشخصية والإنجاز، بين الحقيقة والخيال.
مشاركة :