عقد من الزمان مر على بداية الأزمة المالية العالمية التي ضربت أساسات الأنظمة المالية في العالم وأصابته بانهيار غير مسبوق منذ ثلاثينيات القرن الماضي. وتسببت الأزمة المالية التي انطلقت في عام 2007، في تعرض عدد كبير من البنوك والشركات في أوروبا والولايات المتحدة إلى الإفلاس، كما فقد ملايين الأشخاص عملهم، وانخفض معدل النمو العالمي. وبعد 10 سنوات تمكنت بعض قطاعات الأنظمة المالية من التعافي واستعادت مستويات ما قبل الأزمة كأسواق الأسهم، بينما لا تزال الأزمة تلقي بظلالها حتى الآن على بعض المؤشرات الأخرى مثل معدلات الفائدة المنخفضة وبرامج التيسير الكمي. ورغم التحسن النسبي في أداء الاقتصاد العالمي عامة واقتصادات البلدان الرأسمالية عالية التطور خاصة في الآونة الأخيرة، فإنه يصعب القول إن الاقتصاد الدولي قد تعافى تماما من الأزمة التي عصفت به منذ 10 سنوات والتي بدأت بوادرها في 2007 وأسدل المشهد الدرامي الأخير عليها في عام 2008. وإذا كانت الملامح الأولى لتلك الأزمة قد برزت في صيف عام 2007، فإنها لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة التي تمسك بتلابيب النظام الرأسمالي العالمي، فالسيناريو المرعب قد يتكرر، وقد مني الاقتصاد العالمي في مراحل مختلفة بأزمات اقتصادية متباينة الحدة والمدى، بعضها لا يزال عالقا في الذاكرة حتى الآن. وتعد أزمة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي (1929-1933)، واحدة من أخطر الأزمات الاقتصادية التي أدت بكبار الاقتصاديين الرأسماليين إلى إعادة النظر في بعض مسلماتهم تجاه آليات عمل النظام الرأسمالي، وهو ما أسهم في ظهور نظريات اقتصادية جديدة، بات بمقتضاها للدولة دور أكبر في النشاط الاقتصادي، على أمل أن يساعد ذلك على الخروج من الأزمة وتفاديها مستقبلا. وإذا كانت دورة الانتعاش والركود جزءا أصيلا لا يتجزأ من آلية عمل النظام الرأسمالي، فإن أزمة ثلاثينيات القرن الماضي، تلتها أزمات عدة وإن كانت أقل حدة، ولم تنل في معظمها من البلدان التي تمثل العصب الرئيسي للنظام الدولي، فانفجرت أزمة المكسيك عام 1994، ثم أزمة النمور الآسيوية عام 1997، والأرجنتين عام 1998، مع هذا تبقى الأزمة الأخيرة بمثابة تسونامي اجتاح البيئة الاقتصادية العالمية، ودخلت أزمة 2008 تاريخ الأزمات الرأسمالية باعتبارها الموجة الأعلى والأعتى التي اجتاحت اقتصادات الدول عالية التطور. ولمعرفة مدى ضخامة تلك الأزمة وقوتها، فإن رصد التكلفة المالية التي تحملتها البلدان الرأسمالية المتطورة وتحديدا الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان يعد مدخلا ملائما لتقييم تأثيرها الراهن والمستقبلي في الاقتصاد الدولي. الدكتور بيتر بيكر أستاذ الاقتصاد الدولي والاستشاري السابق لمجموعة من البرامج الإنمائية في الأمم المتحدة، يعتبر أن من الصعب للغاية وضع رقم محدد لقيمة الخسائر المالية للبلدان التي مثلت تاريخيا الرافعة الحقيقية للاقتصاد العالمي. وأضاف لـ "الاقتصادية"، أنه يصعب وضع رقم واحد يختصر قيمة الخسائر الناجمة عن تلك الأزمة في جميع أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، وحتى إذا أردنا حصر الخسائر في الجانب الاقتصادي، سواء فيما يتعلق بالخسائر المصرفية، أو حجم الضخ المالي الذي قامت به الحكومات في المنظومة الاقتصادية، وتحديدا القطاع المصرفي لمنعه من الانهيار، فإنه سيكون أيضا من الصعب علينا الوصول إلى رقم قاطع ومحدد، خاصة أن الأزمة شهدت عددا من المراحل المختلفة، ولحظات انفراج طفيفة وسط غيمة معتمة من الخسائر الكثيفة. وأشار بيكر إلى أن مكتب المحاسبة الحكومية الأمريكي أصدر في الشهر الثاني من عام 2014 دراسة أظهرت في ذلك الحين أن خسائر الاقتصاد الأمريكي بمفرده من اندلاع الأزمة المالية بلغ 22 ترليون دولار، ووفقا لبعض التقديرات الحديثة لبعض الخبراء فإن التكلفة المالية للأزمة في مجموعة السبع (الولايات المتحدة، وكندا، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان) تراوح بين 60 و67 ترليون دولار، وهذا لا يتضمن الخسائر الاجتماعية والنفسية إذ يستحيل عمليا حسابها بشكل واضح وموثوق به، كما أن تقديرات التكلفة لا تتضمن الخسائر التي منيت بها الاقتصادات الناشئة والبلدان النامية نتيجة انتقال الأزمة لديها. ويصبح التساؤل هل يمكن لأزمة مالية واقتصادية أن تكون وليدة لحظة واحدة أم أنها تراكم لمجموعة معقدة ومتداخلة من الأسباب على مدى زمني طويل؟ الدكتورة لورين دبلي هورسفوال أستاذة النظم المصرفية في كلية التجارة في إدنبره في اسكتلندا، تعتقد أن أزمة 2008 لم تكن وليدة اللحظة، وإنما تعود جذورها إلى التراكمات السلبية للأزمات الجزئية السابقة، ومن بينها الأزمة الآسيوية، وأزمة قطاع التكنولوجيا الأمريكي عام 2000، وما لتلك الأزمات من تأثير في أداء الاقتصاد الأمريكي. وحول أسباب الأزمة الأخيرة، تبين لـ "الاقتصادية"، أن أزمة الرهن العقاري جراء إفراط البنوك الأمريكية والأوروبية في منح القروض عالية المخاطر، ونمو فقاعة عقارية ضخمة في الاقتصاد الأمريكي، أدى انفجارها إلى تعرض كثير من البنوك الأمريكية للإفلاس والانهيار، وكان في مقدمتها بنك " ليمان براذرز"، حدث ذلك في وقت يتراكم ويتفاقم فيه العجز في ميزان المدفوعات الأمريكي. وتضيف هورسفوال، أن انفجار الأزمة عام 2008 لم يكن أكثر من إعلان رسمي عنها، بينما الحقيقة هي أن الاختلالات المالية والتجارية سبقت ذلك بعام تقريبا، ففي عام 2007 بلغت خسائر البنوك الأمريكية قرابة 150 مليار دولار في عام واحد، ووصلت تلك الاختلالات في عام 2008 إلى مرحلة لم يعد في قدرة البلدان الرأسمالية عالية التطور استيعابها، فانفجرت بشكل مدو خاصة في القطاع المصرفي، وبانفجارها انخفض الطلب العالمي، وبالطبع فإن انخفاض الطلب دفع بالشركات الكبرى إلى خفض معدلات التوظيف لديها، وهو ما أسفر عن ارتفاع معدلات البطالة، وزيادة نسب الإعانات الاجتماعية الأمر الذي مثل ضغوطا على الميزانيات الحكومية، وتواكب ذلك كله مع تراجع ضخم في التجارة الدولية ومعدلات النمو. ومع هذا يربط قطاع كبير من الاقتصاديين بين الأزمة الاقتصادية وما يصفه البعض بحالة من "العبث" سيطرت من خلالها المكاسب المالية السريعة على النظام الرأسمالي، وتراجع دور القطاعات المنتجة كالقطاع الصناعي والزراعي لصالح القطاعات المالية والمضاربة في البورصات لتحقيق الأرباح السريعة. ويقول لـ "الاقتصادية"، بيتر كورنفورد الباحث الاقتصادي في بنك إنجلترا، إنه على الرغم من أن انفجار الفقاعة العقارية هو ما قاد إلى الأزمة، إلا أن تلك الفقاعة تشكلت في الأساس نتيجة تفشي ما يعرف بالمشتقات المالية وتحديدا أدوات تبادل القروض غير القابلة للسداد، فتلك الأدوات المالية نمت قيمتها من 900 مليار دولار عام 2000 إلى 55 ترليون دولار في العام الذي انفجرت فيه الأزمة أي عام 2008. وأضاف كورنفورد أن هذا النوع من المشتقات المالية لا يتطلب وثائق تثبت القدرة المالية للمدينين أو تاريخهم الائتماني أو مصادر دخلهم، وهو ما جعلها وسيلة جيدة للغاية لغسيل الأموال أيضا، كما يلاحظ أن الأدوات المالية بات من الصعب على صغار المستثمرين فهم أبعادها المختلفة، إذ ازدادت تعقيدا، وهذا أفقد المستثمرين القدرة على امتلاك تقييم واقعي لمدى فاعلية تلك الأدوات المالية، كما أن المسؤولين عن تلك الأدوات المالية، ونظرا لتعقيداتها لم تعد لديهم القدرة على ضبطها، وهذا كله خلق بيئات تشريعية غير ملائمة، ومهد لتراكم ضخم للديون على المستثمرين دون أن تكون لديهم قدرة فعلية على سدادها، وهو ما أدى إلى الوضع الذي وصل إليه الاقتصاد الدولي. البروفيسور توم بيرن أستاذ التجارة الدولية لا ينفي صحة تلك الأسباب، لكنه يربط بينها وبين المراحل المختلفة للأزمة، ويضيف لـ "الاقتصادية"، أنه على الرغم من وجود أسباب عامة للأزمة المالية، إلا أنها مرت بعدد من المراحل وفي كل مرحلة هناك سلة من العوامل التي أوصلت إلى تلك المرحلة وتحكمت فيها. - المرحلة الأولى بدأت قبل الإعلان الرسمي عن الأزمة أواخر عام 2008، ففي شهر حزيران (يونيو) عام 2007 أي قبل أكثر من عام من الإقرار الدولي الرسمي في الأزمة، وبدأت بعض المؤشرات لما نحن مقدمون عليه، لكن لم يفلح معظم الاقتصاديين في قراءتها بشكل سليم، فشركة فريدي ماك المعروفة باسم المؤسسة العقارية الفيدرالية لتمويل القروض العقارية في الولايات المتحدة أعلنت أنها لن تشتري الرهانات العقارية مرتفعة المخاطر، وكان ذلك في شباط (فبراير)2007، وفي شهر نيسان (أبريل) من العام نفسه أعلنت شركة القرن الجديد الأمريكية إحدى أكبر شركات الرهن العقاري في العالم إفلاسها، وبحلول منتصف العام أعلن بنك الاستثمار الأمريكي انسحابه من صندوق الاستثمار في السندات كمؤشر على ضخامة المصاعب المالية التي يواجهها. - في آب (أغسطس) 2007 بدأت ملامح الأزمة تظهر في أوروبا، إذ بدأ النظام المصرفي الأوروبي المرتبط بنظيره الأمريكي يعاني أيضا، فبنك "بي إن بي باريبا" الفرنسي واجه صعوبات حادة وأوقف عملية رد أموال المستثمرين في ثلاثة صناديق استثمارية تابعة له. - في 14 أيلول (سبتمبر) 2007 أخذت الأزمة في التفاقم أكثر في الاتحاد الأوروبي فقد أعلن بنك "نورثرن روك" خامس أكبر مقرض للرهن العقاري في المملكة المتحدة تعرضه لأزمة ائتمان، لتكون تلك أول أزمة ائتمانية في المملكة المتحدة منذ عام 1866، وشهدت الشوارع البريطانية طوابير للمواطنين لسحب ودائعهم، وتدخل محافظ بنك إنجلترا "المركزي البريطاني" في محاولة لإنقاذ "نورثرن روك" ولكنها فشلت، ولم يكن أمام الحكومة البريطانية غير تأميمه. - ويمثل كانون الثاني (يناير) عام 2008 البداية الحقيقية للأزمة، فالفيدرالي الأمريكي خفض معدلات الفائدة، نتيجة انخفاض مبيعات المنازل في الولايات المتحدة لأدنى مستوى في 10 سنوات، وقد ضخ البنك المركزي الأمريكي 200 مليار دولار في الأسواق وتمثل ذلك في إقراض سندات الخزانة لدعم سوق الأوراق المالية ودعم الرهن العقاري، ولأول مرة بدأ صندوق النقد الدولي في الحديث عن خسائر اقتصادية متوقعة بترليونات الدولارات. - وفي آذار(مارس) من عام 2008، أصبح بنك الاستثمار العالمي في الولايات المتحدة أحد ضحايا الوضع الاقتصادي المتردي، وانتاب المسؤولين في المجلس الفيدرالي الأمريكي حالة من الذعر بأن الميزانية العمومية له ستتعرض لخسائر تقدر بترليونات الدولارات. - وفي 15 (أيلول) سبتمبر من عام 2008 يمكن القول إنها اللحظة التي سبقت الإعلان الرسمي عن انفجار الوضع، إذ أعلن "بنك أوف أمريكا" عن استعداده لبيع "ميريل لينش" بـ 50 مليار دولار، وفي اليوم نفسه أعلن بنك "ليمان برازر" الأمريكي عن أكبر افلاس في التاريخ الذي يقدر بـ 639 مليار دولار. وبمجرد انتشار الخبر دب الذعر في الأسواق العالمية، وسعى الفيدرالي الأمريكي إلى إنقاذ الموقف بضخ 85 مليار دولار لمنع مؤسسات مالية أخرى من الانهيار، ولكن بعد فوات الأوان إذ كان الانهيار حتميا. - وشهد اليوم التالي طوابير من المواطنين الذين احتشدوا أمام البنوك في مختلف دول العالم، وخاصة البلدان المتقدمة لسحب ودائعهم، وخلال يوم واحد انخفضت مؤشرات البورصة العالمية بشدة، وهرع وزير الخزانة الأمريكي للكونجرس للحصول على 700 مليار لشراء الأصول السيئة ولكنها لم تجد نفعا. - في شهر تشرين الأول (أكتوبر) انهار القطاع المصرفي الاسكتلندي برمته، وبدأت صناعة المال في أوروبا وخاصة المملكة المتحدة في التداعي، ولم يفلح تعاون البنوك المركزية في إنقاذ الوضع، ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه تخلت الرأسمالية التقليدية عن واحدة من قواعدها الرئيسة وبدأت الحكومات الأوروبية في تأميم البنوك. - في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2008 بدأت واشنطن في طرح أول الحلول، فأعلنت تبني سياسة التيسير الكمي، بدعوى أن تلك السياسة ستستمر إلى عام 2013 فقط، وسيرصد لها 600 مليار دولار، لكن التيسير الكمي تواصل لسنوات، وأنفق فيها ترليونات الدولارات. وفي بدايات العام التالي حذا البنك المركزي الأوروبي حذو الفيدرالي الأمريكي، وقبل اختتام العام كانت إيرلندا أول بلد متقدم يعلن رسميا إصابته بالركود الاقتصادي، وأعلنت واشنطن أن اقتصادها يتقلص، وحاول الفيدرالي الأمريكي التصدي لذلك بخفض أسعار الفائدة إلى الصفر، وهو أدنى مستوى له في التاريخ. أما بريطانيا فبعد توسع اقتصادي استمر 16 سنة، باتت الحكومة مديونة بشكل كبير لإنقاذ النظام المالي. وبحلول عام 2009 كان أوباما في سدة السلطة ووقع حزمة تحفيز بـ 787 مليار دولار. - خلال عام 2009 سعت البلدان الرأسمالية عالية التطور إلى زيادة تنسيق السياسات المالية فيما بينها إلى أعلى مستوى، وباتت سياسة خفض أسعار الفائدة إلى ما يقارب الصفر ظاهرة عامة، لكن هذا فشل في أن يطرح حلا جذريا للمشكلة. - وفي عام 2010 باتت دول أوروبا الأعضاء في منطقة اليورو مثل اليونان على شفا الإفلاس، وبات مستقبل الاتحاد الأوروبي محل تساؤل، ورغم أن الهزات الاقتصادية الضخمة توقفت تقريبا منذ عام 2010، إلا أن الاقتصاد العالمي لا يزال في وضع غير مستقر، ولا يزال القطاع المصرفي الأوروبي يواجه صعوبات جسيمة حتى اليوم. ويصبح التساؤل: إلى أي مدى اتسمت الحلول المطروحة بالنجاح؟ وهل كان في قدرة الاقتصاد العالمي تبني رزمة أخرى من الحلول تقصر من فترة الأزمة وحدتها؟ فرانك برترام الخبير المصرفي يعتقد أن الأزمة بدأت مالية، ومن ثم كان لا بد من طرح حلول مالية لها، مضيفا أن النقطة الرئيسة في جهود البلدان المتقدمة في التصدي انطلقت من أرضية مالية مستندة في ذلك إلى البنوك المركزية، إذ اتبعت سياسة مالية توسعية في الولايات المتحدة متمثلة في زيادة الإعانات والمنح الحكومية للمؤسسات المالية وهو ما يعرف بسياسة التيسير الكمي، وترافق ذلك مع زيادة الكتلة النقدية، وخفض غير مسبوق لأسعار الفائدة. ويستدرك قائلا: "بالطبع كانت هناك جهود مكثفة لإصلاح قطاع الرهن العقاري، وبات من اللازم على المصارف الاستثمارية من الآن وصاعدا تمويل السندات من مواردها الخاصة، وليس بتوريق سندات رهن قديمة، وبالتالي أصبح من المؤكد الآن انخفاض نسبة الديون إلى الأصول، وبات من المستبعد تكرار فقاعة الرهن العقاري. ومع هذا يعتقد بعض المحللين أن العنصر الرئيس في التصدي للأزمة تمثل في المنهجية الجديدة التي تبنتها الحكومات في التعامل مع البنوك، إذ يرى أوليفر بيرن الخبير الاستثماري أن الرؤية الحكومية الجديدة تتعامل مع البنوك إما بالتأميم إذا واجهت مصاعب قوية أو أن تتركها تواجه مصيرها بالإفلاس. ويضيف لـ "الاقتصادية"، أن تأميم البنوك – بالطبع لفترة زمنية مؤقتة – مثل الوسيلة المثلي بالنسبة للحكومة البريطانية على سبيل المثال للتعامل مع الأزمة المالية، فالتأميم أقل تكلفة على دافعي الضرائب، مقارنة بضخ الحكومة تدفقات نقدية كبيرة في شريان مؤسسات مالية خاسرة، بطبيعة الحال هذا الخيار يصطدم بالمفاهيم الأساسية للنظام الرأسمالي، ولكنه خيار مؤقت وأفضل من خيار الإفلاس الذي يمكن أن يترك بصمات كارثية في المنظومة البنكية ككل. على الجانب الآخر، ينظر اقتصاديون من حزب العمال البريطاني المعارض إلى الأزمة الاقتصادية وعدم قدرة النظام الرأسمالي على الخلاص منها بعد نحو عشر سنوات من اندلاعها، من زاوية مختلفة تماما عن المدرسة الرأسمالية التقليدية. الدكتور جون بارتون عضو اللجنة الاقتصادية في حزب العمال يرجع ما يسميه الفشل في التصدي بشكل كامل ومطلق للأزمة وتداعياتها، رغم ضخ حكومات الدول الرأسمالية عالية التطور ترليونات الدولارات لإنقاذ النظام الاقتصادي، وتحديدا النظام المصرفي من الإفلاس والانهيار التام، يعود من وجهة نظره إلى اتباع الحكومات الغربية أسلوب "المهدئات والمسكنات" وليس بطرح حلول جذرية لاستئصال الأزمة من جذورها. وأضاف لـ "الاقتصادية"، أنه لابد من الإقرار بوجود خلل كبير في منظومة توزيع الثروة عالميا، سواء تعلق ذلك بكيفية توزيعها بين دول العالم أو داخل كل دولة، مشيرا إلى أن الأزمة الاقتصادية الأخيرة ترجمة واقعية لما ينجم عن غياب العدالة الاجتماعية، الذي يعد المفجر الأول للأزمة نتيجة تراكم الثروة في يد عدد محدود من الدول، وتراكمها أيضا في يد عدد محدود من الأفراد. وأشار بارتون إلى أن هذا الخلل ترافق مع أزمة تنامت في النظام الرأسمالي في العقود الأخيرة، ألا وهي نمو الاقتصاد الافتراضي أي الاقتصاد الذي يعتمد على المضاربات السريعة لتحقيق أرباح ضخمة، والتركيز على البورصة وأسواق رأس المال وتجاهل التركيز على الاقتصاد الحقيقي الذي يصاحبه إنتاج وتبادل فعليين. وذكر بارتون أن تركيز الاهتمام على القطاعين الصناعي والزراعي سيخفف بشكل كبير من حدة الدورات الاقتصادية وحالة الركود، معتبرا أن إفراط البنوك والمؤسسات المالية العالمية في خلق مشتقات مالية جديدة أدى إلى تضخم القطاع النقدي على حساب الاقتصاد الحقيقي، وأصبحت الأسواق المالية مصدرا للثروة عن طريق صفقات وهمية، والتلاعب بالمؤشرات المالية. وشدد بارتون على الحاجة الماسة إلى إعادة النظر في صناديق التحوط التي تمثل نواد خاصة جدا لثلة من أثرياء الكرة الأرضية، مع ضرورة المراقبة الشديدة لطبيعة المعاملات التي تجريها صناديق التحوط داخل أسواق المال، فما تمتلكه من أصول مالية يؤهلها للتحكم في مسار الاقتصاد العالمي، بطريقة قد تؤدي إلى خسائر مالية لملايين البشر لصالح أرباح بالمليارات لحفنة ضئيلة للغاية من الأثرياء.Image: category: عالميةAuthor: هشام محمود من لندنpublication date: الأحد, سبتمبر 10, 2017 - 15:45
مشاركة :