لو كان النفوذ دواءً طبياً، لترافق مع لائحة طويلة من الآثار الجانبية المعروفة لأنه ربما يكون مسؤولاً عن التسمّم والفساد. لكن هل يمكن أن يسبب أضراراً في الدماغ؟ «أتلانتيك» بحثت عن إجابة. حين هاجم بعض المشرّعين جون ستومف خلال جلسة استماع في الكونغرس الأميركي في الخريف الماضي، بدا وكأن كل واحد منهم وجد طريقة مبتكرة لتدمير المدير التنفيذي السابق لبنك «ويلز فارغو» بعدما فشل في منع نحو 5 آلاف موظف من إنشاء حسابات مزيفة للعملاء. لكن كان أداء ستومف أكثر جانب لافت للنظر. وقف هناك رجلٌ وصل إلى أعلى منصب في أهم بنك في العالم، لكنه بدا عاجزاً بالكامل عن قراءة أجواء القاعة. صحيح أنه اعتذر عما حصل، لكنه لم يشعر بالخجل أو الندم. كذلك لم يكن جريئاً أو متغطرساً ولا حتى مخادعاً. بل بدا مشوّشاً وكأنه مسافر وصل للتو من «كوكب ستومف» حيث يكون احترامه قانوناً بديهياً ويُعتبر عدد الخمسة آلاف صغيراً. ما الذي كان يدور في رأس ستومف؟ يذكر بحث جديد ضرورة طرح سؤال آخر: ما الذي لم يكن يدور في رأسه؟ نوع من الأورام مزاجياً، وصف المؤرخ هنري آدامز النفوذ باعتباره «نوعاً من الأورام التي تنتهي بالقضاء على تعاطف الضحية». لا تبدو هذه النتيجة بعيدة جداً عن تلك التي توصّل إليها داشر كيلتنر، أستاذ في علم النفس في جامعة كاليفورنيا ببيركلي، بعد سنوات من تجارب مخبرية وميدانية. في دراسات امتدت على 20 سنة، اكتشف الأخير أن الأشخاص الذين يقعون تحت تأثير النفوذ يتصرّفون كأنهم يعانون إصابة دماغية صادمة، فيصبحون أكثر اندفاعاً وأقل ميلاً إلى إدراك المخاطر وأقلّ قدرة على مقاربة المسائل من وجهة نظر الآخرين. في الفترة الأخيرة، وصف سوكفيندر أوبهي، عالِم أعصاب في جامعة «ماكاستر» في أونتاريو، ظاهرة مشابهة. لكنه على عكس كيلتنر الذي يدرس السلوكيات، يحلِّل الأدمغة. حين استعمل آلة التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة، اكتشف أن النفوذ يسبب اضطراباً في عملية عصبية محددة تُسمّى «التطابق» وتشكّل ركيزة للتعاطف. تُعتبر هذه الفكرة أساساً عصبياً لما سمّاه كيلتنر «مفارقة النفوذ»: حين نكتسب النفوذ، نخسر جزءاً من القدرات التي كنا نحتاج إليها أصلاً لاكتساب ذلك النفوذ». ثبتت خسارة تلك القدرات بطرائق مبتكرة ومتنوعة. في دراسة جرت في عام 2006، طُلِب من المشاركين أن يرسموا الحرف E على جبينهم كي يشاهدها الآخرون: تتطلب هذه المهمة رؤية الذات من وجهة نظر المراقِب. لوحظ أن الأشخاص الذين يشعرون بأنهم نافذون كانوا أكثر ميلاً بثلاث مرات إلى رسم الحرف باتجاه نفسهم وباتجاه عكسي للآخرين (ما يذكّرنا بجورج بوش الابن الذي حمل العلم الأميركي بطريقة عكسية خلال الألعاب الأولمبية في عام 2008). تثبت تجارب أخرى أن الأشخاص النافذين يقدمون أسوأ أداء في تحديد ما يشعر به الناس في الصور أو توقّع طريقة زملائهم في تفسير الملاحظات. يمكن أن تتفاقم هذه المشكلة لأن الناس يميلون إلى تقليد تعابير رؤسائهم ولغتهم الجسدية: لا يقدم المرؤوسون مؤشرات جديرة بالثقة إلى الأشخاص النافذين. لكن يركّز كيلتنر تحديداً على ميل النافذين إلى التوقف عن تقليد الآخرين. يكون الضحك حين يضحك الآخرون أو التوتر حين يتوترون أكثر فاعلية من التملّق. من المفيد أن يبث الناس المشاعر التي يختبرها الآخرون ويقدموا لمحة عن خلفيتهم. يقول كيلتنر إن الأشخاص النافذين «يتوقفون عن محاكاة تجارب الآخرين»، ما يؤدي إلى نشوء ظاهرة نقص التعاطف. تطابق يُعتبر التطابق شكلاً أكثر سلاسة من التقليد ويحصل داخل عقلنا من دون أن ندرك ذلك. حين نشاهد شخصاً يؤدي عملاً معيّناً، يُضاء الجزء الدماغي الذي نستعمله للقيام بالعمل نفسه على شكل استجابة متعاطِفة. يمكن فهم هذه العملية عبر تجربة غير مباشرة. إنها العملية التي حاول أوبهي وفريقه تنشيطها حين طلبوا من المشاركين أن يشاهدوا فيديو لشخصٍ يضغط بيده على كرة مطاطية. بالنسبة إلى المشاركين غير النافذين، نجحت عملية التطابق بلا مشكلة: نشطت المسارات العصبية التي يستعملونها حين يضغطون بنفسهم على الكرة بقوة. لكن لم تكن النتيجة بالمستوى نفسه ضمن مجموعة الأشخاص النافذين. هل توقفت استجابة التطابق لديهم؟ بل كانوا أشبه بأشخاص مخدّرين! لم يكن أيٌّ من المشاركين يتمتع بنفوذ دائم. بل كانوا طلاباً جامعيين طُلِب منهم أن يشعروا بالنفوذ عبر تذكّر تجربة كانوا مسؤولين عنها. يُفترض أن يزول أثر التخدير تزامناً مع تلاشي ذلك الشعور: لم تتضرّر بنية أدمغتهم بعد تمضية فترة بعد الظهر في المختبر. لكن إذا دام ذلك الأثر فترة طويلة (من خلال جعل محللين في «وول ستريت» يتكلمون عن عظمتهم، وجعل أعضاء مجلس الإدارة يقدمون لهم مساعدات مالية إضافية، وجعل مجلة «فوربس» تشيد بهم لأنهم «قدموا أداءً جيداً عبر القيام بأعمال حسنة»)، فقد يسجلون ما يُسمّى في مجال الطب تغيرات «وظيفية» في الدماغ. تساءلتُ عن احتمال أن يوقف الأشخاص النافذون محاولة وضع نفسهم مكان الآخرين من دون فقدان قدرتهم على القيام بذلك. أجرى أوبهي دراسة لاحقة ربما تسهم في الإجابة عن ذلك السؤال. لكن قيل للمشاركين هذه المرة معنى التطابق وطُلِب منهم أن يبذلوا جهداً واعياً لزيادة مستوى تجاوبهم أو تخفيفه. كتب أوبهي مع مساعدته كاثرين نايش: «لم تثبت نتائجنا وجود أي فرق». لم يكن ذلك الجهد مفيداً. تُعتبر هذه النتيجة مخيّبة للآمال. يُفترض أن تكون المعرفة شكلاً من النفوذ. لكن ما النفع من فهم قدرة النفوذ على حرماننا من المعرفة؟ جنون يبدو أن الناحية الإيجابية تتعلق باحتمال أن تكون تلك التغيرات ضارة في ظروف محدودة. يذكر البحث أن النفوذ يدفع الدماغ إلى غربلة المعلومات الهامشية. في معظم الحالات، تعطي هذه العملية دفعة من الفاعلية الإيجابية. في الإطار الاجتماعي، ربما تعطي هذه العملية أثراً جانبياً مؤسفاً عبر تخفيف تأثّرنا. لكن قد لا يكون هذا الأثر سيئاً بالضرورة بالنسبة إلى الأشخاص النافذين أو الجماعات التي يقودونها. اعتبرت سوزان فيسكي، أستاذة في علم النفس في جامعة «برنستون»، أن النفوذ يخفف الحاجة إلى قراءة الناس بطريقة مختلفة لأنه يمنحنا مجموعة من الموارد كنا نستعملها لتملّق الآخرين. لكن في أية منظمة معاصرة، يتعلق الحفاظ على تلك القدرة بمستوى معيّن من الدعم الذي تقدّمه تلك المنظمة. يشير بعض نماذج الغطرسة التنفيذية التي تشتق من عناوين الصحف إلى أن بعض القادة يصل إلى مرحلة الجنون التي تترافق مع نتائج عكسية. يصبح هؤلاء الأشخاص أقل قدرة على فهم السمات الاستثنائية لدى الناس فيتكلون بدرجة إضافية على الصور النمطية. تذكر بحوث أخرى أنهم يزيدون اتكالهم على «الرؤية» الشخصية كلما تراجعت قدرتهم على رؤية تلك السمات. كان جون ستومف ينظر إلى بنك «ويلز فارغو» باعتباره مكاناً حيث يملك كل عميل ثمانية حسابات منفصلة (كان يذكر للموظفين أن الرقم ثمانية يرمز إلى النصر). وصرّح إزاء الكونغرس بأن «عمليات البيع بين العملاء أقصر طريق لتعميق العلاقات». العلاج ألا يمكن القيام بأي أمر لتغيير الوضع؟ لا يمكن تأكيد ذلك! يصعب إيقاف ميل النفوذ إلى التأثير في دماغنا. من الأسهل أن نوقف الشعور بالنفوذ، من وقت إلى آخر على الأقل. يقول كيلتنر إن النفوذ ليس منصباً أو مكانة بل حالة عقلية. بحسب نتائج تجاربه، يكفي أن نتذكّر فترة لم نشعر خلالها بالنفوذ كي يتمكن دماغنا من الاحتكاك بالواقع. يبدو أن تذكّر تجربة سابقة تخلو من مظاهر النفوذ ينجح مع بعض الناس، وقد تقدم التجارب المؤثرة بما يكفي شكلاً من الحماية الدائمة. نُشرت دراسة مدهشة في «مجلة الموارد المالية» في فبراير الماضي اكتشفت أن مديرين تنفيذيين مرّوا في طفولتهم بكارثة طبيعية أنتجت مصائب كبرى كانوا أقل ميلاً إلى أخذ المجازفات من مديرين لم يمروا بتجربة مماثلة. (يقول راغافيندرا راو الذي شارك في الدراسة ويعمل أستاذاً في جامعة «كامبريدج» إن المشكلة الوحيدة تتعلق بميل المديرين التنفيذيين الذين مروا بكوارث لم تنتج مصائب بارزة إلى أخذ المجازفات أكثر من غيرهم). «متلازمة الغطرسة» لا تُعتبر الأعاصير والبراكين وأمواج تسونامي مجرّد قوى لكبح الغطرسة. تروي رئيسة شركة «بيبسي كو» ومديرتها التنفيذية إيندار نويي أحياناً ما حصل معها حين تلقّت نبأ تعيينها في مجلس الشركة في عام 2001. وصلت إلى المنزل وهي تشعر بأهميتها ومكانتها المرموقة لكن طلبت منها والدتها في تلك اللحظة أن تخرج لشراء الحليب قبل أن تبلغها بـ«النبأ السار». غضبت نويي وخرجت لشرائه، ثم قالت لها والدتها عند عودتها: «اتركي ذلك التاج اللعين في المرأب!». تُذكّرنا هذه القصة بالواجبات العادية والحاجة إلى الحفاظ على التواضع. تؤدي والدة نويي في القصة دور «صاحب المبدأ»: إنه المصطلح الذي استعمله سابقاً المستشار السياسي لويس هاوي لوصف علاقته بالرئيس فرانكلين د. روزفلت طوال أربع ولايات رئاسية، علماً بأن هاوي لم يتوقف يوماً عن مناداته باسم فرانكلين بكل بساطة. بالنسبة إلى وينستون تشرشل، كانت زوجته كليمنتين تؤدي ذلك الدور وتحلّت بالشجاعة الكافية كي تكتب: «عزيزي وينستون، أعترف بأنني لاحظتُ تدهوراً في تصرفاتك ولم تعد لطيفاً بقدر ما كنت عليه». كُتِبت تلك الملاحظة يوم دخل هتلر إلى باريس ثم مُزّقت قبل إرسالها في النهاية. لم تكن الرسالة عبارة عن شكوى بل كانت أقرب إلى تنبيه: كتبت كليمنتين أن شخصاً أبلغها بأن تشرشل كان يتصرف «بازدراء شديد» مع مرؤوسيه خلال الاجتماعات لدرجة أنّ «أية أفكار، سواء كانت جيدة أو سيئة، لم تكن تتدفق». ترافق ذلك الوضع مع الفشل في تحقيق أفضل النتائج. يذكر اللورد ديفيد أوين (طبيب أمراض عصبية بريطاني أصبح عضواً في البرلمان وعمل وزير خارجية قبل أن يكتسب لقب بارون) قصة هاوي وكليمنتين تشرشل في كتابه الذي صدر في عام 2008 وحمل عنوان In Sickness and in Power (في المرض والسلطة). تناول الكتاب مختلف الأمراض التي أثرت في أداء رؤساء الحكومة البريطانيين والرؤساء الأميركيين منذ عام 1900. أصيب بعضهم بجلطات دماغية (وودرو ويلسون) أو أصبحوا مدمنين (أنثوني إيدن) أو تعرّضوا لاضطراب ثنائي القطب (ليندون ب. جونسون، وثيودور روزفلت)، لكن أُصيب أربعة آخرون على الأقل باضطراب لا تتعرف إليه المراجع الطبية لكن يرى أوين ضرورة أن تفعل. عرّف أوين وشريكه جوناثان ديفيدسون ذلك الاضطراب باسم «متلازمة الغطرسة» في مقالة نُشرت في مجلة «الدماغ» في عام 2009: «إنه اضطراب مرتبط باستحواذ النفوذ، لا سيما النفوذ الذي يتعلق بنجاح ساحق ويمتد سنوات ويخلو من الضغوط القوية على القائد». تشمل خصائصه العيادية الأربع عشرة: ازدراء واضح بالآخرين، وغياب الحس الواقعي، وأفعال مضطربة أو متهورة، ومظاهر قلة الكفاءة. في مايو، شاركت «الجمعية الملكية للطب» في مؤتمر منظمة «ديدالوس تراست» التي أسسها أوين لدراسة ظاهرة الغطرسة والوقاية منها. يعترف أوين بقابليته الصحية للتعرض لمتلازمة الغطرسة. وحين سُئل عن خطوات مفيدة للحفاظ على الحسّ الواقعي كي تتمكن الشخصيات النافذة الأخرى من تطبيقها، طرح بعض الاستراتيجيات مثل تذكّر مظاهر الغطرسة عبر استرجاع فصول من الماضي، ومشاهدة أفلام وثائقية عن أشخاص عاديين، والاعتياد على قراءة رسائل الناخبين. لكن للتحقّق من مستوى الغطرسة على طريقة أوين اليوم، يشتق أهم معيار على الأرجح من مساعيه البحثية الأخيرة. يتذمّر الأخير لأن الشركات لا تبدي اهتمامها بالبحوث المرتبطة بالغطرسة. ولم يكن اهتمام كليات إدارة الأعمال أفضل حالاً. كان صوته المُحبَط يعكس شكلاً من العجز. بغض النظر عن المنفعة التي تلقاها أوين، يثبت الوضع أن هذا المرض الشائع في مجالس الإدارة والأجنحة التنفيذية لن يجد علاجاً شافياً في أي وقت قريب.
مشاركة :