الحل السياسي لا يعني هزيمة الحراك أو خيانته كما يزعم تجار الحروب، وإنما هو فرصة للانتقال من الثورة السياسية المستحيلة، إلى ثورة فكرية وحضارية ممكنة ومرتقبة.العرب سعيد ناشيد [نُشر في 2017/09/11، العدد: 10748، ص(8)] قليلة هي الثورات الناجحة في التاريخ. فقد انتهى معظمها إلى الفشل. وكثيرا ما كان الفشل ذريعا ومدويا. إننا إذن لا نجانب الصواب إذا اعتبرنا الثورات الناجحة حالة نادرة في تاريخ الثورات السياسية. لا شكّ في ذلك. ومن باب المفارقات أيضا أن تكون أسباب اندلاع الثورات هي نفسها أسباب فشلها: عدم الاهتمام بتنمية الإنسان من حيث هو إنسان، ومن ثمة غلبة الطابع الانفعالي على النفوس. في تقديري، وهنا سأجازف قليلا، أعظم ثورة في التاريخ فشلت هي الثورة الفلسطينية. على رسلكم أحبائي، المقاومة باقية وقائمة ولا خلاف، وإن شئتم قولوا إن الجهاد موجود بإذن الله، أو قولوا ما شئتم، لكنْ أمامكم وأمامي بدوري سؤال صريح، من ذا الذي لا يزال يجرؤ على استعمال عبارة “الثورة الفلسطينية”؟ تلك العبارة التي كانت ذات زمن مدوية في مختلف الأرجاء. لكن، زيادة في التواضع، ولكي لا نُحمل “الثورة الفلسطينية” أكثر مما تتحمل، نقول حتى الثورات التي تُنعت في الغالب بأنها عظيمة وناجحة مثل الثورة الفرنسية مثلا، ظلت فاشلة لعدّة أجيال متتالية، ظلت فاشلة على المدى القصير والمتوسط. ولم يأت النجاح في آخر الحساب إلا بعد زمن طويل من المخاض والآلام والخيبات والنكسات، والتي طبعت ما يُعرف بسنوات الرّعب الثوري، حتى أننا قد لا نبتعد عن الصواب إذا ما قرّرنا أن نعتبر نجاح الثورة الفرنسية مجرد مصادفة سعيدة عقب محاولات طويلة للتغطية على فشلها الأصلي. يقال العبرة بالخواتم، غير أن الخواتم بعد طول الأمد تتأثر بالمصادفات أكثر من تأثرها بالمنطلقات. أما الثورة الروسية فما إن أوحت بنجاحها في سنواتها الأولى حتى فشلت بعد عقود معدودة. بل فشلها الذريع توقعه بعض آبائها منذ سنواتها الأولى. وأما الثورة الإيرانية فقد كانت لحظة انتصارها هي لحظة فشلها بالذات. عموما، هناك ثورات لا تنتهي إلى أي شيء. لكن يهمنا من مجمل الثورات الفاشلة التي شهدتها البشرية أن ننتبه إلى أن بعض الثورات، ومع الأسف ليست كلها، قد يثمر فشلها في الواقع وعيا جديدا لدى الشعوب، وبنحو أفضل مما لو كانت قد نجحت في تحقيق هدفها المباشر. كل ما في الأمر أن الفشل السياسي للثورات يحتاج إلى استثمار فكري وثقافي وإبداعي، يحتاج إلى استرجاع الأسئلة الحقيقية والجذرية والتي عادة ما يتم إهمالها في غمرة الحماس الثوري. لقد فشلت حركة مايو 1968 في فرنسا في تحقيق هدفها المباشر، لكنها خلقت منعطفا كبيرا في الوعي الغربي برمته، بحيث لا يزال أثر ذلك ساريا على مختلف الحقول والمجالات. أظنّ أن نفس الأمر يصدق على الثورة السورية هذه المرة أو هذا هو المرتقب. لقد فشلت الثورة السورية. هذا الإقرار مؤلم بكل تأكيد لكنه مهم أيضا. فشلت الثورة السورية منذ لحظة أخونتها وسلفنتها ودعوشتها، بحيث تحولت إلى مجرد فتنة طائفية. فشلت الثورة السورية في آخر الأمر وبكل المقاييس، لكنْ ثمة شيء لا يجب أن ننساه، هذا الفشل الكبير يمكن أن يمثل منعطفا كبيرا للوعي الإسلامي برمته. لعلها فرصة لا يجب تفويتها. ولعلّ الإرهاصات بدأت ترشح من قلب الجحيم. نرى بعضها ونصغي لبعضها، وهي على ندرتها تحمل دلالات مبشرة. ثمة علامات وعي شقي وخلاق نابع من حكايات مرعبة يرويها الناجون من “جحيم المجانين” وقد سمعتُ بعضها في مناسبات عديدة. وهذه واحدة: مجاهد يأمره أميره بأن ينفذ حق الله في حق أمه (بمعنى حكم القصاص تحديدا الإعدام بالرصاص)، والتهمة هي سب الذات الإلهية. كثير من المشاهدين المتحلقين حول ساحة الإعدام ارتفع منسوب توحشهم طالما يحسبون أنها العدالة الإلهية في أسمى مظاهرها، لكن قلة “مباركة” أصيبت بـ”صدمة دينية” مؤلمة، تولد عنها وعي إصلاحي جذري وجديد. طبعا تبقى الحسابات الانفعالية هنا مدروسة بدقة “داعشية”، والعبرة أن حالة الابن وهو يعدم أمه بنفسه تبقى آمنة لهم من أن يلقي “الشيطان” يوما في نفس الابن المكلوم بأن أصحابه قتلوا أمه. في سوريا توقفت طريق ما كان يسمى بالربيع العربي، وأُحبطت معظم الآمال. ولولا بصيص الأمل التونسي الباقي لعادت النظرية التي تقول إن هؤلاء العرب أو المسلمين لا يصلحون للديمقراطية ولا هي تصلح لهم. عموما، نجحت الثورة في تونس، أو أنها توشك على النجاح، لكنها فشلت في كل مكان آخر، غير أن الفشل السوري قد يكون أكبر فرصة لنجاح من نوع آخر، نجاح الوعي الذي لا ينبع أحيانا إلا من جحيم الخيبات والمآسي والآلام. وصدق من قال الشعوب السعيدة لا تصنع التاريخ. فهل هناك من ذاق قسوة الانكسار أكثر من السوريين؟ لقد دفع السوريون جميعهم ثمنا غاليا لأجل أمل وضاء، لكنه كان أملا خاطفا كالوميض، فقد كان أوله ثورة وأوسطه فتنة وآخره حربا بالوكالة، المنتصر خاسر في كل أحواله، والخاسر الأكبر هو الوطن في كل الحالات. إن التحريض الذي يمارسه اليوم عدد من إعلاميي قناة الجزيرة عبر مقالاتهم الشعبوية ضد الحل السياسي المرتقب، بدعوى أن موازين القوى قد صارت لصالح النظام، لهو زلة أسوأ من التبرير. عدم قبول الحل السياسي في هذه الظروف بدعوى أن النظام وبعد سنوات من الحرب أصبح أكثر قوة من قبل، ليعني شيئا واحدا: التحريض على مواصلة التدمير العبثي من أجل لا شيء، اللهم الشماتة والتشفي واللتين هما أخلاق الكثيرين منهم. الحل السياسي لا يعني هزيمة الحراك أو خيانته كما يزعم تجار الحروب، وإنما هو فرصة للانتقال من الثورة السياسية المستحيلة، إلى ثورة فكرية وحضارية ممكنة ومرتقبة. لقد خرجت بعض وحوش العصر (داعش، النصرة، إلخ) من أتون الحالة السورية، وكل ما نجحت فيه تلك الوحوش الضارية هو تمزيق الثورة وافتراسها، غير أن القضاء على الثورة لا يعني نهاية الحرب وعودة السلام. إذ لا بد من حل سياسي توافقي في الأفق القريب، ولكي لا نحلم أكثر مما ينبغي، لا بد من حل دولي ترعاه الأطراف الراعية بنحو صريح ومعلن، لا بديل عن ذلك، لا بديل آخر غير “نصر” بطعم الفناء، على طريقة الملك الذي جاء القائد العسكري ليخبره بنتائج الحرب قائلا: خسرنا نصف العساكر، خسرنا نصف الذخائر، خسرنا نصف الحظائر، خسرنا نصف العشائر، لكننا انتصرنا على العدو بعون الله، ولقنّاه درسا لن ينساه. فأجابه الملك الحكيم ببلاغة وهدوء: انتصار آخر وسنفنى. كاتب مغربيسعيد ناشيد
مشاركة :