تحول الأندلس، مثلما ترون في منابعه الآن، إلى دول وطوائف وفتن. وظلت قرطبة أمينة وبقي ما بقي منها آية التاريخ العربي في فصوله المشرفة. أسرف عبد الرحمن الناصر في كل شيء، وأعلن لنفسه الخلافة، لكن نتيجة الإسراف كانت أثرا بديعا من آثار الأرض. وبنى القصر الكبير من 430 دارا بينها قصور فخمة لكل منها اسم ومعنى: الكامل والمجدد والحاضر والروضة والمعشوق والمبارك والرستق وقصر البديع. وعززت الجدران والأفاريز بالنقوش، آيات وحكم وعيون الشعر. وتجاورت البرك والبحيرات والبساتين. وزهت قرطبة بأعظم ما فيها، مسجدها الكبير. وعندما كنا ندعى في الماضي للمغرب لمقابلة الحسن الثاني، كان يخامرني شعور بأنه يتبع التقليد القرطبي في الاحتفالات: الخيول والفرسان والثياب المزركشة والبنادق القديمة والهتاف العالي بحياة أمير المؤمنين. وكان عبد الرحمن الناصر إذا أراد زرع الرهبة في ضيوفه أفاض في عرض مظاهر البلاط. غير أننا لقينا من الحسن الثاني بعدما مررنا بأجواء الاستقبال، ترحابا وقربى. وحدثنا كأنه أعد لقاء خاصا لرجال من أهل الصحافة. غير أن معالم الألق الأندلسي كانت كلها هناك، وصدور التين المجفف والجوز والمشمش والبخور الدائم الاشتعال، الغامر العطر. ومسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء؟ هل كانت الأمنية تجاوز التحفة الإسلامية الكبرى في قرطبة؟ تأمل عبد الرحمن الناصر الصراع الدائر في مشرق الأمة فقال أنقل الخلافة إلى هنا وهم ملتهون. صانع خصومه في الجوار وفي البعيد وفاز عليهم جميعا. دانت له البلدان وخافه الفرنجة والروم. وفي النهاية تآكلت قرطبة العظيمة من الداخل. اهترأ الداخل فترجرج السور الخارجي. ثقوبه كانت من هذه الناحية، من الناحية الداخلية. يعتقد عرب اليوم بأن خلف كل شيء مؤامرة، لأنهم كانوا يضعون خلف كل شيء مؤامرة. يرفضون أن يصدقوا الخصم الخارجي لكثرة ما خدعهم الخصم المنادي بالولاء. وفي أيام عبد الرحمن الناصر كانوا يستخدمون البغال، علامة الوجاهة في التنقل. عندما سافرت إلى الخليج كان الاسم الشائع للمباني والمخازن والمتاجر «لؤلؤة الخليج» أو«جوهرة الخليج» أو«درة الخليج». فثروة الخليج وعلامته كانت اللؤلؤ. والأسماء المفاخرة انتقيت من مواسم الغوص. والديار الأندلسية في موسمها كانت مجموعة من اللآلئ البرية. عواصم وليدة تتجاوز العواصم التليدة. وتبقى حتى سقوطها، لؤلؤة ودرة وجوهرة الأندلس. جميع الأحلام العربية لها نهاية واحدة، على يد العرب. ولها مسعف أجنبي نحمله كل شيء. حظ مفرط. إلى اللقاء.
مشاركة :