أطفأ 30 يونيو حرائق إقليمية لا ينقصها الوقود، وأحبط حربا أهلية على وشك الاشتعال، ليس بين الإسلاميين والشعب، وإنما بين فرق يدعي كل منها امتلاك الحقيقة المطلقة التي تمنحه الجرأة على تكفير الآخرين.العرب سعد القرش [نُشر في 2017/09/12، العدد: 10749، ص(8)] يحلو للبعض أن يستعرض بلعن شهر يونيو، وتتبارى أصوات مباهاة تنقصها حكمة التدبر، كلما اقتربت ذكرى 30 يونيو 2013، فتساوي بينها وبين هزيمة يونيو 1967، في تبرؤ يدّعي الرشد، ويستعير بصيرة زرقاء اليمامة، ولا يخلو من رغبة مكبوتة في نيل امتياز ما، ولو شهادة بالتطهر الإنساني والثوري والديمقراطي والأخلاقي. وقد جمعتني مصادفات بهذا الشهر الذي لا أحبه بسبب الحر المقترن بالشقاء، بذكريات الحصاد القاسية في ضمّ القمح، والاستعداد الأشد قسوة لزراعة الأرز، وهما من محاصيل استراتيجية تكاد تصير ذكرى بسبب التخريب المتعمد للزراعة، بعد معاهدة ما سمي بالسلام مع العدو الإسرائيلي عام 1979. فليكن يونيو وغيره من الشهور مناسبة دائمة لتوجيه اللعنة إلى مستحقها، إلى مقامر عبث بأمن مصر، وأخرجها من فلكها العربي إلى التيه الأميركي، بتوقيعه اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978، فأورثنا تبعية مهينة لا نملك الإرادة الكافية للتخلص منها، رغم 30 يونيو 2013، وأخشى أن أقول بسببه. وفي كل الأحوال ليس 30 يونيو بدعا من المصائر المخيبة للآمال. في يونيو 2007 دعيت إلى ملتقى دولي في الجزائر عن أدب الرحلة. وفي يونيو 2011، وكانت نشوة خلع حسني مبارك لا تزال تسكرنا وتنسينا أن إزاحته ما هي إلا بداية الجهاد الأكبر، دعيت إلى “المهرجان الثقافي الدولي الرابع للأدب وكتاب الشباب” بين الجزائر العاصمة وتلمسان. وبعد 30 يونيو 2013، ذهبت إلى مدينة وهران مدعوا إلى مهرجان الفيلم العربي. في زياراتي الثلاث للجزائر لم أستشعر أي مساس بثورة تحظى بما يشبه الإجماع الشعبي، أما الشهداء فلهم قدسية وحرمة تليق بتضحياتهم، ولا يقتصر الأمر على مجرد إطلاق أسماء العربي بن مهيدي وديدوش مراد والعقيد حواس وغيرهم على الشوارع الكبرى، وإنما يحيا الشهداء والثورة كمعان عابرة للأجيال، تتجاوز أي خلاف حول مآل الثورة ومصائر الثوار، حين صارت الثورة دولة، والرفاق بين حاكم ومنفيّ مطارد ومعتقل ومحكوم بالإعدام. ولا يسيء إلى نبل الثورة عمل فني مثل فيلم “الوهراني” الذي شاهدته في مهرجان أبوظبي السينمائي عام 2014، ويقدم بطله ومخرجه إلياس سالم مراجعة تعيد الثورة إلى أهلها، تنزلها من سماء القداسة إلى أرض بشر لهم نوازع آدمية لا يكتملون فيها إلا بنقصهم، كما تتبع الفيلم كيف شاخت الثورة مبكرا عقب انتزاع الاستقلال، فلم تصمد روحها القديمة أمام الفساد، وترهل البيروقراطية، وإغراء المنافع الشخصية. ولكن الانتقاد يتوجه إلى السلوك والضعف الإنساني، ولا ينال من شرف الثورة فيهدر معناها. كان 30 يونيو 2013 لحظة براءة، وإلى حد كبير غفلة لم تتحصن بالخبرة الكافية للنجاة من مصير 25 يناير 2011، وبين الزلزالين أمور مشتبهات، واختلاف نبهني إليه صاحب مطعم يوم الأحد 30 يونيو، بالقرب من مدينة مرسى مطروح. كنت في هدنة مصيف في توقيت غير مناسب، بعد أشهر سادها التوتر، مطمئنا إلى نضج الحالة الثورية بما يكفي لإحداث شيء كبير ربما يحتاج إلى شهر أو أكثر لاكتمال ملامحه؛ فلا يولد مبتسرا. لم يبرح صاحب المطعم مقعده أمام قناة الجزيرة، وهي تنقل بثا مباشرا في قسمة غير عادلة للشاشة، نصفها مثبت على ميدان رابعة العدوية، والثاني يلاحق حركة الملايين بين ميدان التحرير وقصر الاتحادية وميادين أخرى في مصر. وقال وقد ضايقه فرحي بمتابعة الحشود “في 25 يناير ما كان هذا الخط موجودا في الشاشة”، قلت “ولا على الأرض، كنا كتلة عدوها واحد، وأنصاره استسلموا للحقيقة بعد فشل محاولة الانقضاض على الثورة في موقعة الجمل (2 فبراير 2011). ولكن الإخوان ينكرون فشلهم، وأنهم منبوذون ولا يحترمون إرادة الشعب”. في اللحظات الفارقة يصعب التخلي عن الهوس، فلا يتحلى مستبيح الدم بعقلانية تعصمه من الحماقة والفجور، بالمعنيين الديني والسياسي، أما السياسي المؤمن بقاعدة الصواب والخطأ لا الحلال والحرام؛ فلا يحرض أنصاره على التدمير بحجة احترام نتائج صندوق الانتخابات. في عام 1937 أقال الملك فاروق وزارة مصطفى النحاس زعيم حزب الوفد ذي الشعبية الكاسحة، فامتثل النحاس واحتكم إلى العقل واثقا بحصول حزبه على الأغلبية في الانتخابات، ولم يأمر أعضاء حزبه بالعصيان المدني، أو الاعتصام المسلح في ميدان انتصارا للشرعية. هذا تراث سياسي حميد يحتمل الخلاف ويجهله حملة تراث آخر يرفع لواء “الإجماع”، فأجمعوا على الانتقام من الشعب، ومن منصة اعتصام رابعة، قال مرشد الإخوان محمد بديع “سنحمي الشرعية بدمائنا”، أما التهديد الصريح “سنسحقهم يوم 30 يونيو” فأطلقه طارق الزمر أحد قتلة أنور السادات، وقد حظي عام 2012 بحضور الاحتفال بنصر أكتوبر، وشاء الرئيس الإخواني محمد مرسي أن يغيّب صناع النصر في عيدهم، فكان هذا فراق بيني وبينه، خطأ أكبر من الإعلان الدستوري في الشهر التالي، والذي رفع به نفسه إلى منزلة الذي يسأل عما يفعل. أطفأ 30 يونيو حرائق إقليمية لا ينقصها الوقود، وأحبط حربا أهلية على وشك الاشتعال، ليس بين الإسلاميين والشعب، وإنما بين فرق يدعي كل منها امتلاك الحقيقة المطلقة التي تمنحه الجرأة على تكفير الآخرين. ومن دونها كنا سنلحق بالصومال في ظل المحاكم الإسلامية وغزة تحت حكم حركة حماس، فلا يتنازل إسلامجي عن حكم منحه الله إياه ولو قتل مواطنيه. ومهدت الأرض بالفتاوى، فجماعة “التوحيد والجهاد” رأت أن الإخوان “فرقة ضالة، ومصر مخطوفة من فئة من الإسلاميين تريد تحقيق مصالحها لا مصالح الإسلام. الإخوان والسلفيون كفرة لأنهم بقبولهم الديمقراطية الكافرة أشركوا بالله، من باب مشاركة الله في السيادة والتشريع. مرسي كافر حتى لو طبق 99.99 بالمئة من الشريعة فتركه للجزء البسيط الباقي يكفره”. وقبيل عزل مرسي قال منظر الجهاديين سيد إمام “الإخوان وحلفاؤهم كلهم كفار مرتدون، والرئيس الإخواني محمد مرسي ودستوره وقانونه اللذان أقسم على العمل بهما كلهم طواغيت حكما وتشريعا.. كل من انتخبه أو أيده ولو بكلمة.. كافر لأنه أراد دوام حكم الكفر، كما يترتب على ذلك أيضا أن قتلى الإخوان وميليشياتهم الذين دافعوا عن هذا الرئيس الطاغوت الكافر وعن مقرات حزبهم كفار”. لم يكن الإخوان بعيدين عن هذه الحرائق، فمفتي الإخوان عبدالرحمن البر قال “الجهاد في سوريا فرض، والحرب الآن بين مؤمنين وكفار”، وأعلن صفوت حجازي في التلفزيون أنه يرسل السلاح إلى “المجاهدين السوريين”. وفي 15 يونيو 2013 أقيم مؤتمر “الأمة الإسلامية لنصرة سوريا” في ستاد القاهرة، وكان البر وحجازي بين مستقبلي مرسي الذي لوّح بالعلم السوري، وفاجأ الجميع بقطع العلاقات مع دمشق، من دون تنسيق مع أي جهة مصرية. جاء قرار مرسي في اليوم التالي لإعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما تزويد معارضي بشار الأسد بأسلحة ثقيلة، ومطالبته بفرض منطقة حظر جوي في سوريا التي أعلن مرسي الجهاد فيها، ولم يجرؤ على الدعوة إلى الجهاد في فلسطين المحتلة؛ فلم تعد إسرائيل هي العدو، وإنما الشيعة، وقد حرض عليهم نائب رئيس الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح محمد عبدالمقصود في المؤتمر، فاستجيب لتحريضه بقتل أربعة من الشيعة في قرية زاوية أبومسلم في الجيزة. دعوة مرسي إلى “الجهاد في سوريا” هي نهاية خط رسمه الأميركان وبدأه أنور السادات حين استقبل عام 1980 وفد المجاهدين الأفغان. كان 30 يونيو زلزالا في قوته وانكساراته. ولا أنكر على أي مصري “تحديدا”، وليس على مستشرقين عرب عاجزين عن انتقاد حكامهم وأنظمة ينعمون بعطاياها، الوقوف منه موقف الكاره ووصفه بأنه “انقلاب، مؤامرة، ثورة مصنوعة، نصف ثورة”. كما لا أنكر أن نظام عبدالفتاح السيسي أقصى شركاءه، أقصاهم بالقاف لا الخاء، منعا لأي التباس في وقت يعتقل البعض فيه بالشبهات، لذا لزم التنويه. روائي مصريسعد القرش
مشاركة :