لم أجد تعبيراً دقيقاً ومعبراً عن النظام السياسي السلطوي الإسلامي الشمولي، سوى أنه مدمر لذاته وغيره، أرجو ألا يعد هذا هجوماً كاسحاً على الإسلام ذي القيم النورانية الأخلاقية، بل هو قراءة شخصية فاحصة للإسلام بصيغته السياسية أو ما اصطلح عليه الإسلام السياسي، فمن اقتحموا غمار السياسة الدينية منذ القدم، أو بمعنى امتطوا خيل الدين لإقامة دولة على مقاس فهمهم واعتقادهم الدينيين لم يكونوا سوى متطلبين لسلطات واعتلاء عرش دولة ذات صبغة دينية تحكم الشعوب بشرائعهم الخاصة المشتقة بحسب فهمهم ومصالحهم من الإسلام، خصوصاً ما يتعلق بالممانعة أو الاختلاف مهما اتسمت بصفات دينية مشابهة تنزع لاستخدام ذات الشريعة لتحقيق أهدافها الخاصة، حتى تشكل لاحقاً جبهات مضادة اختلقت لها ألوية تميزها عن غيرها، ذات عقيدة سياسية مناوئة اصطبغت بطيف ديني منشقة. ظلت هذه المعتقدات المسيسة عبر القرون تتفرع وتحشد لها منتمين وأتباعاً، وتفرخ طوائف ومللاً ونحلاً لا يلبث أن ينقلب بعضها على بعض، ولو تفحصنا في عمق أصل كل هذه الطوائف وأزحنا عنها ثقل التاريخ وموروثاته التي يزايد عليها لاكتشفنا أننا نعود إلى جذور دينية نورانية ذات صفات أخلاقية عالية، ولو ترك الإنسان قبل أن يورط في عملية الاتساق والانسياق خلف منهج سياسي مؤدلج لاصطففنا جميعاً تحت مظلة شعار واحد، كما نرى أنفسنا في حرم الله أيام الحج الأكبر، متوحدين نطوف حول الكعبة ونصلي ملتفين برداء واحد بلا تمييز، هذا الصورة المشهدية مرعبة من خلال منظور سياسي، بيد أنها في حقيقتها الدينية الخالصة مؤثرة عاطفياً ونفسياً، وتشع حزمة قيم نورانية فائقة الجودة، لذلك ينجح الديني بشكله الفطري الطبيعي ويرسب الدين السياسي بامتياز، وبناء عليه فقد تجلت صورة الإسلام الصحيحة في أمم أخرى لا تحكمها المناهج الدينية المسيسة بقدر ما تحكمها أخلاق الدين. لقد رأينا كيف يخلّص الإسلام الإنسان في بعض الدول من الهمجية والعدوانية وينتشلهم من عالم الإجرام إلى عالم السلام والسعادة، لقد شهدت السجون الأميركية مجرمين خطرين تأثروا بالإسلام وقيمه ودخلوا فيه باستسلام كامل، وأثّروا في غيرهم، بينما تقوم دولة داعش على هامش الخريف العربي وتتحلى بالإسلام كصيغة «استقطابية» يسهل من خلالها تمرير قيمها العدوانية، ثم لا تلبث أن تقيم حفلات المجازر باسم الله، وتقتحم حياة الناس الآمنة بأجساد مفخخة. لن نستطيع إدراج كل الدول الإسلامية عبر كل العصور منذ الدولة الأموية كأول دولة إسلامية وحتى آخر دولة إسلامية داخل هذا النسق، فقد استمر تداول السلطة من الأضعف إلى الأقوى كطبيعة حتمية للبقاء، ومع ذلك لم تنح الجانب القبلي والعرقي من قيم الغلبة واحتكار السلطة، حتى وإن حكمت بشريعة الإسلام فهذا لا يمكن بحال من الأحوال أن يصفها دولة دينية، فهي إسلامية من حيث دين شعبها وحاكمها، لذلك لم تتغير هذه الصفة مع انتقال هذا الشكل من الدولة العرقية والقبلية إلى دولة المؤسسات المدنية ذات الصبغة القانونية المختلطة، ما بين القوانين العلمانية والتشريعات الإسلامية، على رغم تأثرها بثقافة المستعمر الذي قاومته بحس ديني، فقد أصبحت لاحقاً دولاً إسلامية تطبق القوانين العلمانية، ولم تتخل عن صفاتها المدنية التي منحتها إياها الصيغة المهجنة. ثمة دول قامت على أساس ديني لا قبلي كالدولة القرمطية التي لم تدم أكثر من قرن لتأتي إيران اليوم لتعيد التجربة ممثلة بالثورة الخمينية في 1979 منقلبة على نظامها العلماني لتنزع إلى تمثيل القداسة نظاماً سياسياً إسلاموياً يجسد الأشخاص بصور آلهة، وقد أعطى لنفسه الصلاحيات المطلقة بتصدير هذه التجربة، وتعميمها على مناطق أخرى من العالم الإسلامي، حتى تراءى للجبهات الحزبية ذات الصبغة الإسلامية قدرتها على تكرارها، فنشأت بناء عليه جماعات جهادية خلاصية من داخل أروقة الإخوان المسلمون، كالقطبية والتكفير والهجرة اللتين ضختا أفكارهما وطموحاتهما ومبادئهما في القاعدة ثم لاحقاً في كل الجماعات التي تشكلت مع الربيع العربي، لتمثيل نفسها بكل السبل والوسائل لتأسيس الحلم الكبير الذي بالغت فيه أدبيات الإخوان المسلمون وجماعات الصحوة في الخليج العربي، المتمثل بقيام دولة الخلافة. لقد توهموا أو بمعنى أصح أوهموا أو شدوا بحبال الغواية مع حزمة من الشعارات الدينية التي تضمنتها خطابات رئيس أكبر دولة علمانية تطبق الدستور الكمالي الذي جرد من الذائقة والنكهة الإسلامية تماماً، حتى خلعوا عليه كل الصفات التي تجعله زعيماً دينياً، يحكم دولة علمانية، لا أمل فيها بأن تتحول ذات يوم إلى الشريعة الإسلامية داخل مجتمع يعرف جيداً معنى النظام العلماني الحقيقي الذي ألغى كل الفروقات بين الناس وقبل بكل الأحزاب لخوض غمار الانتخابات، وهي التي أوصلت خليفة المسلمين المنتظر إلى سدة الحكم، بذلك لن يراهن الخليفة نفسه على ترك قيم الدولة العلمانية من أجل سواد عيون حزبيات مشتتة، تنزع إلى التطرف والعنف أكثر من السلام، وهو يعلم جيداً أن العلمانية التي يحكم باسمها ويتحدث أحياناً بلغته الحزبية لن تمنحه الفرصة للانقلاب عليها، لذلك هو اليوم يؤكد ذلك ويجاهد من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. الخلاصة التي لا نستطيع أن نتجاهلها مهما حرصنا على مواربتها، تقول: إن الإسلام دين حياة وأخلاق لا دين سياسة.
مشاركة :