كنا في الجزء الأول قد تعرضنا إلى وجهات النظر في مواقف الحياة المختلفة من خلال النظر إلى ظواهر الأمور، لكننا في هذا الجزء ننتقل إلى استبطان الممكن والمتخيل في تحليل الواقع وقراءة عناصره. وبالدرجة الأولى نحاول التعرف على وجهتي النظر المتباينتين لكل من الفلاح الملاصق للواقع والأرض والكائنات التي تعيش عليها، والشاعر المحلق في فضاء الماورائيات والمتمسك بدائرته اللغوية المهيمنة عليها المصطلحات والتصنيفات الثقافية. لكنه أحيانا مع مرور الزمن وتغير الأحوال لم يعد الشاعر هو ذلك المتفلسف المتمكن من لغته والمسيطر على تلابيب الفكر في محيطه، كما لم يعد الفلاح هو ذلك العنصر الحي المكمل لدورة الحياة الفيزيائية، بل صار هو المتحكم في مسيرة الحياة، وتحديد نوع منتجاتها وتصنيف مكوناتها. فكيف أصبح الشاعر ينظر إلى بواطن الأمور في محنته المستجدة؟ وما العناصر الممكنة والمتخيلة في تلك الرؤية؟ وكيف غدت أفكار الفلاح ورفاقه الذين يتوافقون معه في وجهة نظره متسقة مع استخلاصات الشاعر وفلسفاته العميقة؟ في الواقع أن زاوية النظر هي التي تغيرت لدى الشاعر بين فترة إملائه الأفكار وإسقاطها على الواقع، وفترة تلقيه أفكار الآخرين بوصفها عناصر بناء لرؤية العالم من جديد. فقد أيقن من خلال تغير اتجاه التأثير، وتكاثر الصدأ في الاتجاه الأول القديم، أن طفرة التغير كانت أكبر من أن يستوعبها ذهنه القابل - بحكم تفاعله المستمر مع الأفكار المختلفة - لتعدد الرؤى واختلاف الاقتراحات الموصلة للأهداف الكبرى المحددة. ولدى تخيله لحجم التغييرات بدأ يدرك أن ريش الفراخ قد نما بصورة غير متوقعة، وأنها أصبحت قادرة على مغادرة العش، والبحث عن قوتها بنفسها، وكذلك اختيار طريقها الذي تريد أن تسلكه في الحياة. أما استبطان الفلاح لمجريات الأمور، فلم يكن فيه تلك النقلة الكبيرة، كما هي الحال عند الشاعر، فأحوال الزرع والأسرة والكائنات المحيطة ببيئة الحقل، هي ما يغير فكر المزارع، ويجعله يتأقلم مع كل تحول في الظروف برزمة من التحولات الآنية، التي لم يكن الشاعر يدركها في حينها. وما أن تحل شروط جديدة للعمل والحياة في الحقل، حتى يستبق الفلاح حدوثها بأقلمة نفسه معها، لجني ثمار تلك المرحلة. وربما يشعر بذلك أو لا يشعر، لكنه قليل التمسك بما يمليه عليه فكره، أو توحي به إليه المبادئ النظرية، التي يقل احترامه لها كلما زادت خبرته في الحياة. وفيما يخص تخيلاته، فهي ميكافيلية لا تتجاوز البحث عن النفعية في المدى المنظور، والانبهار بما ينتجه الحقل أو تجود به الطبيعة. فلم يعمد يومًا ما إلى تصور ما تؤول إليه الأمور، لو تغيرت آليات الإنتاج لديه أو لدى المشتركين في دورة الحياة من حوله، كما لا يهتم بالتحليلات والتوقعات طويلة المدى؛ لأنها - في نظره - أضغاث أحلام. وبين رؤية ديناميكية، لكنها يوتوبية في أغلب الأحوال، لا تهتم كثيرًا للتغيرات الصغيرة والمراحل العابرة، وبين رؤية ستاتيكية في تحليلها، وبراجماتية في استراتيجياتها، ضاع الوئام في بيئة ذلك الشاعر والفلاحين من حوله. وإن كان الشاعر قد اصطدم بعدم واقعية رؤيته، لكنه لم يعد قادرًا على اللعب بالبيضة والحجر، كما كان في سابق عهده. وبدأت تتضح لديه بوادر الرؤية الواقعية، أن الفراخ تغادر وتغادر، لكن هل تبتعد وتحلق بعيدًا؟
مشاركة :