أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات كنت أذهب إلى الغداء مع غسان تويني في مطعم قرب سكن السفير اللبناني لدى الأمم المتحدة. دائما، تقريبا، كنا نرى في ركن من المطعم غير المزدحم، الممثل الكوميدي وودي ألان مع والدته، النحيلة مثله. وكنا نعجب به ابنا وفيا، رغم شهرته وماله. بعد نحو عقد سافرت إلى نيويورك وكانت صحفها تمتلئ كل يوم بدعوى الطلاق التي أقامتها زوجته، ميا فارو، مطالبة بحضانة أبنائهما الثلاثة. إنه رجل يفتقر تماما إلى «شروط الأبوة» للأسباب التالية: لا يعرف اسم واحد من رفاق أبنائه، لم يأخذ الأولاد مرة واحدة إلى الحلاق أو ساعدهم على الاستحمام، لا يعرف إلى أي طبيب أسنان يذهبون، ولم يحضر مرة «اجتماع الأهل» في المدرسة. إذن، من ظننته يوما ابنا صالحا هو أب سيئ. لم أكتشف ذلك فقط، بل اكتشفت أن ثلاثة من الشكاوى تنطبق عليّ، فيما عدا طبيب الأسنان، لأنه طبيبنا أيضا. لكن الشروط المطلوبة في الأب الأميركي ليست إلزامية في الأب العربي: مساعدة الأطفال على الاستحمام وحضور اجتماعات الأهل في المدرسة وغيرها. ومع هذا فأنا أعتبر نفسي أبا محبا. وأبا عاطفيا أيضا. وفيما يتعلق بأمي كنت ابنا عاطفيا أيضا، لكن أي رجل شرقي يعتبر إظهار العاطفة ضعفا يجب أن يخفى عن الأبناء. أين هو الحل الوسط؟ أو بالأحرى هل هناك في التربية حل وسط؟ انضمت ابنتي إلى شقيقها وإليّ، في هذه الهواية التي لا تتحول إلى مهنة. تخرجت في الجامعة في اختصاص فني، ثم اكتشفت أن رغبتها الحقيقية ليست الرسم والنحت على طريقة الأم وإنما الكتابة. ذات يوم قالت ضاحكة: احزر ما الموضوع الذي اقترحته علينا الجامعة اليوم: أن نصف مشاعرنا حيال الأشياء عندما ننتقل من مكان إلى آخر. وضحكت. لقد نقل هذا الأب بعائلته أمكنة وبلدانا كثيرة. شعرت بالخجل وبالندم أيضا.. لكن ابنتي طرحت الفكرة على أنها موضوع أدبي لا قضية عائلية. اختارت أن تعبر عن حالة حياتية بطريق النكتة لا بطريق الشكوى. ومع ذلك شعرت بتأنيب ضمير. من يكون غجري الطبع عليه أن يتعلم كيف يستقر عندما يصبح أبا. الحمد لله أن زوجتي أم شرقية، تصبر وتتحمل، وأن ابنتي ما كانت لتذكر الأمر لولا الحديث عن المسابقة الأدبية. * نقلا عن "الشرق الأوسط" ** جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط.
مشاركة :