شعبان يوسف ينتصر للمهمشين في "المنسيون ينهضون" بقلم: ممدوح فرّاج النّابي

  • 9/17/2017
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

الشاعر شعبان يوسف يعود في كتابه الجديد لينفض أوراق النسيان عن عشرين كاتبًا هووا في ذاكرة النسيان بفعل عوامل عديدة. العرب ممدوح فرّاج النّابي [نُشر في 2017/09/17، العدد: 10754، ص(13)]نجيب محفوظ.. نوبل انقذته من جور الزمن العربي على الكتاب لا يني الشاعر والناقد شعبان يوسف يواصل حفرياته في المدونة الأدبية ليزيل الغبار عمن أزاحتهم الحركة الأدبية عمدًا أو دون عمد، فبعد كتابه “لماذا تموت الكاتبات كمدًا” والذي سَلَّط الضوء فيه على الكاتبات المصريات والعربيات اللاتي اكتوين بنار الكتابة وجمرها، ثم كتابه عن “ضحايا يوسف إدريس” حيث فَكَّك سطوة يوسف إدريس دون أن يقلل من قيمته الإبداعية فكشف عن مبدعين حقيقيين توارت نجوميتهم أمام أضواء يوسف إدريس التي أحرقت من وقف في مواجهتها (حتى ولو صدفة). يعود في كتابه الجديد الصادر عن دار بتانة بالقاهرة 2017 “المنسيّون ينهضون” لينفض أوراق النسيان عن عشرين كاتبًا هووا في ذاكرة النسيان بفعل عوامل عديدة منها ما هو ثقافي ومنها ما هو متعلق بالسياق السياسي، وأيضًا منها ما هو متعلق بالسياق الاجتماعي. تاريخ من التهميش يأتي ما يضطلع به الناقد من إيمانه بأهمية المؤرخ الأدبي الذي يجب أن يتسلّح بأدوات ومنهج علمي رصين، فيقوم بدراسة الظروف والملابسات التي أحاطت بالكاتب أو الحدث أو الظاهرة المدروسة، وأيضًا البحث في الهامش والمستبعد والمهجور والمغضوب عليه والمضطهد، إذا كان فردًا أو ينتمي إلى جماعة، فالتاريخ كما يقول “وإن كان ذا عينين ثاقبتين، إلا أنهما ليستا صائبتين تمامًا أو دائمًا”. وبسبب هذا ضاعت كنوز من الأعمال نتيجة للإهمال أو التقصير في البحث عنها. فالحياة الثقافية مليئة بأسماء كثيرة لاقت من التهميش والإقصاء حدّ القتل، وقد يكون التهميش في صورة اختزال على نحو ما حدث مع الكاتب إسماعيل أدهم الذي انتحر بعد أن كتب “لماذا أنا ملحد؟” فالكاتب وقع اختزاله في هذه المقالة الشهيرة وحادثة انتحاره، في حين أن للكاتب أعمالاً مُهمّة تناولت كتابات توفيق الحكيم وهو صاحب أول كتاب عنه، بالإضافة إلى ما كتبه عن أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وجميل صدقي الزهاوي، ودراساته الموسَّعة عن العقاد وطه حسين وأحمد لطفي السيد. حالة الاختزال تتكرَّر مع نعمات أحمد فؤاد التي ربط النقد اسمها بقضية هضبة الأهرام متغافلة عن المكانة السامقة لها كمفكرة وأديبة وباحثة. وهناك أيضًا الإقصاء عن طريق التصنيف كما في حالة محمد خليل قاسم صاحب “الشمندورة” أول رواية نوبية، فتصنيف روايته نوع من الإقصاء، إذ أن الأدب النوبي لا يختلف عن الأدب الإنساني في شيء كما يقول المؤلف. وهناك كما يورد المؤلف نماذج كثيرة تدل على عدم حيادية مؤرخ الأدب، وإن كان المعوّل الأول يعود إلى الضمير الأدبي. وهو الذي أعاد سيرة هؤلاء المبعدين عن الصورة ليقدِّمَ التاريخ الحقيقي لهم. الكتاب وإن كان يرُكّز على الجانب التاريخي للكُتّاب والتنقيب عن الأعمال المجهولة فهذا لا يُقلّل من قيمته بل يزيد من تلك القيمة من خلال الكشف عن التاريخ السري أو المجهول للكُتّاب، علاوة على التحليلات الفنيّة لبعض أعمالهم ورصد آراء النقاد فيما كانوا يكتبونه. ولا يدين المؤلف قصر نفس الباحثين في الكشف عن هذه الأعمال أو حتى يلصق الأمر بالظروف المحتقنة التي نشأ فيها هؤلاء الكتاب وكانت عامل إقصاء هي الأخرى فقط، بل أيضًا يشير بأصابع الاتهام إلى النقاد الذين ساهموا بدرجات وعي مختلفة في تسويق وترويج أعمال أدبية ذات شأن قليل القيمة دون أن يستثني طه حسين نفسه وما فعله من تقريظات لشعراء من طراز الأمير عبدالله الفيصل وثروت أباظة وحسن عبدالله القرشي، وفي ذات الوقت كان يجلد كتابًا ونقادًا من طراز يوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوي ومحمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس ومصطفى محمود ويوسف السباعي وغيرهم، لما أسهموا فيه من عمليات إقصاء وتهميش للآخرين.أهمية الكتاب تأتي في كونه إضاءة لهؤلاء الكتاب المنسيين والذين سقطوا من الذاكرة الأدبية، وأيضًا في كونه مرآة لعصر بكل ثرائه الثقافي الذي قدّم هذه الأجيال المختلفة سير التحولات الكتاب في مجمله أشبه بسيرة لتحولات الكُتَّاب والنقلات التي أثّرت في حياتهم على مستوى السَّلب أو الإيجاب، فيتناول سيرة الناقد سيد خميس وتحوله من الكتابة القصصية إلى النقد الذي وجد نفسه فيه. ثم النقلة المهمة في حياته الأدبية بانتقاله إلى نقد شعر العامية حيث أبدع فيه بشكل لم يبدع فيه نقاد قبله أو بعده. وأخذه الأمر بعين الجدِّة جعله يبيع ميراثه من أرض زراعية ليؤسس دارًا للنشر أسماها “دار ابن عروس”. الناقد سيد خميس لا يضع كتاباته في معزل عن الحياة الثقافية، بل يضعها في حركة من الديالكتيك بتعبير ماركس، فيضع دراساته مُقارنة بدراسات سابقيه، ويشير الكاتب إلى دور سيد خميس في الفهم الخاص للنظرية الماركسية، ودوره في إثراء الحياة الثقافية سواء أثناء سفره إلى دمشق أو بعد عودته فكتب العديد من الدراسات الهامة. وفي دراسته عن الطاهر أحمد مكي ينفض الغبار عن سوء الفهم الذي يتبادر إلى اسم الرجل، باعتباره أحد حُرّاس مجد اللغة العربية في كلية دار العلوم. ولكن الحقيقة أن الرجل كما أُطلق عليه “عميد الأدب المقارن” لأنه ألَّفَ وترجم الكثير من العناوين تحت هذا العنوان الكبير. الدراسة الخاصة بالطاهر هي أشبة بالدارسات التعريفية بالكاتب وبجهوده في مجالاته البحثية خاصة الأدب المقارن، ويغلب عليها الحسّ التاريخي، سواء في استعراض حياة الطاهر مكي أو في كتاباته وأبحاثه، ولا يقف عند سرد تفاصيل الحياة الشخصية بل يضرب الكثير من الاستشهادات من كتب الباحث نفسه. لكن في مجملها قدمت صورة أكثر إيضاحًا عن عوالم ثرية للطاهر سواء في الترجمة أو الدراسات المقارنة أو حتى التأليف نفسه. لا يتوقف المؤلف عند سرد حياة هؤلاء المنسيين كما شملهم العنوان وإنما يُقدِّم تاريخًا أدبيًّا للسياق الذي نشأ فيه الكاتب، فيسرد عن المناخ السياسي والثقافي وحركة النقد والكتابة وموقع الكاتب منها، حيث هيمنة الواقعية التي كانت سائدة وشعاراتها مرفوعة من قبل الأكاديميين، وتكلفة الخروج من مظلة الواقعية وما يتعرض له من حرمان واستبعاد على نحو ما حدث مع صلاح عبدالصبور، ضاربًا المثال بوحيد النقاش الذي عزف مغردًا وحيدًا بعيدًا عن أيّ جوقة سياسة أو ثقافية أو اجتماعية، معلنًا عن أفكاره الوجودية كما ظهرت في أول قصة له “على المنحدر” التي جاءت لتكشف عن موهبة مكتملة وليست قصة لشاب مبتدئ. ثمّ يسرد عن الظلم الذي لحق بالنقاش من حذف اسمه من مسرحية لوركا “يرما” ونسبها إلى صلاح عبدالصبور في حين أن عبدالصبور كتب الأشعار لها فقط.إضاءة للكتاب الذين سقطوا من الذاكرة الأدبية يكشف الكتاب عن الصراعات الخفية بين الكتّاب في هذا العصر ومنها معركة العقاد مع عباس خضر، الذي طلب من أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرِّسالة أن يُبعده عن الكتابة، إلا أنّ الزيات لم يستجب له، حيث أن العقاد كان يخشى من قلم عباس خضر الغفل والعفوي والصادق والذي لا يعرف الحسابات الصغيرة أو الكبيرة. ويعرض أيضًا لحالات السرقات الأدبية أو الانتحال على نحو ما حدث مع عباس خضر نفسه وأحمد أمين. وتتكرّر هذه الأحداث مع زهير الشايب، فمع أنه اضطلع لوحده بجهد مؤسسة في ترجمة كتاب “وصف مصر” إلا أن هذا لم يشفع له وتمّ التنكيل به في المؤسسات الصحافية التي عمل بها. ومع ترجماته المختلفة وكتاباتها ذات الأهمية على نحو ما فعل في توثيقه للوحدة والانفصال بين مصر وسوريا إلا أن أحدًا لم يهتم به ولم يحتفِ به الاحتفاء اللائق. بل كان أنيس منصور يضطهده. وهناك من اعتبر الناقد أنور المعداوي عامل هدم في الحياة الثقافية فجاءت كتاباته بمثابة تصحيح أو تعديل لأفكار خاطئة، ومن هنا نال قدرًا واسعًا من الهجوم فناصبه الكثير العداء وهناك من سعى إلى التقليل من شأنه. ومع الحفاوة التي نالها قلمه من كبار الكُتّاب إلا أنّه أعقب هذا نوع من التهميش والإقصاء إلى حدِّ النسيان والاستبعاد من أجهزة العهد الجديد. ينقل المؤلف صورًا ونماذج لكتاب مصريين سقطوا في هوة النسيان رغم دورهم الفاعل في الحياة الثقافية وإن كانوا غائبين جسدا مثل على شلش الذي لا تُنْكر جهوده الجبَّارة في تقريب الأدب الإفريقي إلى القارئ، وكذلك بدر الديب الذي أصدر العديد من الكتابات وسافر إلى جميع أقطار الأرض إلا أنّ اسمه يكاد يكون مجهولاً وهو إقصاء مُتعمد ممن يظهرون على الساحة رغم تهافت ما يقولون. الغريب أن بدر الديب لم يسقط فقط من زمرة الكتاب بل سقط دوره في ريادة قصيدة النثر؛ فهو ضمن أربعة كتاب جددوا فيها وهم لويس عوض وإبراهيم شكرالله ومحمد منير رمزي وبالمثل ضياء الشرقاوي فالإقصاء كان معه بسبب توارد خواطر، وهو الذي كتب “سقوط رجل جاد” التي صادف صدورها يوم انتحار المشير عامر، وربط المسؤولون بينها وبين ما حدث فلم تصدر، في حين أن لا علاقة للشرقاوي بالسياسة. وهناك محمد كامل حسن المحامي رائد الرواية البوليسية الذي كان ضحية رجال عبدالناصر، وكذلك الشاعر محمد مهران السيد الذي تمّ اعتقاله في بورسعيد. وأيضًا الكاتب السّاخر حسين شفيق المصري وصلاح ذهني شهيد القصة القصيرة الذي سقط حتى من كتابات الأكاديميين عن التأريخ للقصة القصيرة. وأخيرًا تأتي أهمية الكتاب في كونه إضاءة لهؤلاء الكتاب المنسيين والذين سقطوا من الذاكرة الأدبية، وأيضًا في كونه مرآة لعصر بكل ثرائه الثقافي الذي قدّم هذه الأجيال المختلفة، وأيضًا بكل خطاياه السياسية التي خلّفت تبعات مجهولة لبعض هؤلاء الكُتَّاب.

مشاركة :