سمير عطا الله: مدن الصيف: لماذا تضاء المدن؟

  • 8/11/2014
  • 00:00
  • 14
  • 0
  • 0
news-picture

تُبنى الصداقات في السفن والقطارات سريعا وتنتهي في نهاية الرحلة، قصيرة أم طويلة. للحظات تشعر، بسبب كثافتها، وكأنها سوف تتجاوز الرحلة، وربما كل الرحلات، لكنها غالبا تنتهي مثل سواها: تحمل حقيبتك وتترجل وتمشي ويُسدل الستار على فصل آخر من فصول العمر، وعابرة أخرى من عوابر السفر. وجوه لا تُنسى ووجوه بلا ملامح. ذات رحلة على الباخرة «اسبيريا» انضمت إلى الرحلة في الإسكندرية سيدة في نحو الخمسين ووالدتها، وكانتا في الطريق إلى برشلونة حيث سوف تجري الابنة جراحة في العين. كانتا، في هذا الوقت من بداية السبعينات، آخر صفحة من إسكندرية التعدد. تتحدثان أربع أو خمس لغات. تحملان دماء أربع أو خمس جنسيات. ترثان بقايا أربع أو خمس عائلات صناعية. ولم يبق للأم سوى الابنة وللابنة سوى الأم. وتعرفان بالاسم والصداقة الشخصية جميع العائلات الكبرى التي تفرقت بعد التأميم في بقاع الأرض. ولن تغادرا الإسكندرية إلى أي مكان. فليرحل الباقون، أما هما، الابنة والأم، فمثل شاعر اليونانية قسطنطين كفافي، لن يترك الأرض من أجل اللغة. هما، مثل كليوباترة، ومثل أبطال رباعية داريل، وأبطال إدوارد الخراط، وأبطال «صراع في الميناء»، سوف تبقيان هنا. الرحلة إلى برشلونة فقط للعلاج. وكلفة العلاج هي آخر ما تبقّى للعائلة التي تفرّقت كلها أبناء وأشقاء وأحفادا ولم يبق للإسكندرية سوى هما. أو سواهما. في حافلة المنامة على قطار باريس - فرانكفورت يبدأ رفاق الرحلة الستة بالتحادث كأنهم عائلة واحدة ذاهبة لتفقد الأقرباء. وبعد قليل يأتي الكمساري ويحول المقاعد إلى أسرة مثل غواصات البحرية. ومن فوق كل «سرير» صغير يستمر تبادل الأحاديث إلى أن يتعب الجميع. ومع طلوع الشمس تكون قد انتقلت من نهار إلى نهار ومن بلد إلى بلد، من لغة الشعر والعطور إلى لغة الصناعة والجنرالات، ومن بلد كان يحتله الألمان إلى بلد صار للفرنسيين حامية عسكرية في برلين، تؤكد هزيمة المعتدي التاريخي الذي أصبح حليفا تاريخيا. تعبر فرنسا إلى ألمانيا كأنك تسير في رحلة تاريخية. كل الأسماء تعرفها من الكتب، كل السهول شاهدتها من قبل في السينما تدور فوقها المعارك وتُحفر فيها الخنادق وتسقط فيها الأجساد والأرواح والمشاعر الإنسانية. لكن ذلك كان من أوروبا القرون الماضية، التي تقاتل فيها الناس على الأرض والحدود واللغة والعرق والمذاهب والدوقيات. فيما كان القطار يقف بنا في محطة فرصوفيا ذات صباح، ارتابني شعور بفزع غريب وأنا أتذكر أن هذا البلد كان مقبرة أوروبا الكبرى ذات مرحلة. نخره الألمان بالموت، والروس بالذل، والحرب بالفقر. وها هي أضواء فرصوفيا خافتة في المساء توفيرا للطاقة. لذلك، قال رزيارد كابوشنسكي في أول رحلة إلى الخارج إنه رأى أضواء روما من الجو، تساءل، لماذا تضاء المدن. إلى اللقاء..

مشاركة :