«كليوباترا» تحت ملامح تيدا بارا: كل شيء مزيّف

  • 9/18/2017
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

في ذلك الحين، كانت الأفلام لا تزال تعرّف في معظم الأحيان بنجومها. كان النجم سيد الفيلم. من أجله يصنع هذا الأخير. ومن أجله غالباً ما يتدفق الجمهور الى الصالات. كانت السينما لا تزال فناً طازجاً لم يُحدَّد بعد بصورة نهائية من هو المسؤول الأول عن أفلامها. ومن هنا، مثلاً، إذا شئنا اليوم أن نعود بالذاكرة لمعرفة كيف بدأت السينما، الأميركية بخاصة، تهتم بسير «عظماء التاريخ» آخذين مثالاً عليهم ملكة الإسكندرية كليوباترا وحكايات غرامياتها وآخر أيام حكمها وسقوطها، سنجد اسم النجمة الأميركية تيدا بارا، هو الاسم الأول الذي يقفز الى الذاكرة على اعتبار أنها كانت واحدة من أولى النجمات اللواتي لعبن الدور في تاريخ الفن السابع. ومن هنا حتى إن كان صعباً اليوم تذكّر اسم مخرج الفيلم الذي حقّق العام 1917 كفيلم أميركي صامت، لن يكون صعباً على الإطلاق أن نتذكر أن بطلة الفيلم كانت تيدا بارا التي تعرت فيه الى درجة أن الرقابات الأميركية ستمنع الفيلم خلال مراحل متنوعة ما جعل الشركات المنتجة والموزعة تخفيه. وكانت النتيجة أن الفيلم كله ضاع ولم يبق من ساعتي عرضه الأصلية، سوى بعض الفقرات المشتتة. > ومع ذلك كان إنتاج الفيلم بالغ الجدية في حينه حيث أن المنتج ويليام فوكس أشار في مذكراته الى أن كلفة الفيلم بلغت ما لا يقل عن نصف مليون دولار - ما يعادل اليوم قرابة العشرة ملايين - أنفقت على الديكورات لا سيما على أزياء تيدا/بارا الشفافة الفاضحة! أما سيناريو الفيلم - الذي كتبه أدريان جونسون في اقتباس مباشر عن مسرحيتي «أنطوني وكليوباترا» و «يوليوس قيصر» لشكسبير كما في استعانة بكتاب السير رايدر هاغارد عن حياة كليوباترا ناهيك بمسرحية أخرى لفكتوريان ساردو، من دون أن يشارك فيه مخرج الفيلم دجي. غوردون إدواردز -، فيسهب في تتبع مسار حياة الملكة في تفاصيلها الشخصية غير مهتم إلا قليلاً بالبيئة السياسية والتاريخية التي أحاطت بتلك الحياة. كما قلنا، كان المطلوب استغلال وجود تلك الفاتنة التي ألهبت مخيلات وعيون المتفرجين في أميركا وخارجها ومن هنا، حين أُعلن عن تقمّصها دور كليوباترا تحوّل انتظار الفيلم لهفة وترقباً. لكن الخيبة ستكون كبيرة، ليس من جراء الفيلم نفسه، بل من جراء الرقابة التي سرعان ما تدخلت لتقطع العديد من مشاهد الفيلم أولاً، في شكل لم يكن له سابق في تاريخ السينما الأميركية، ثم لتمنعه لاحقاً. > وربما لا نكون هنا في حاجة الى استعادة أحداث الفيلم. فهي بالطبع تلك المعروفة والتي غالباً ما قدمت ملكة الإسكندرية الأخيرة إمرأة نزقة شبقة ما إن تُغزى مدينتها حتى تتنقل بين القائدين الرومانيين الغازيين كفتاة هوى لامبالية، لكن شخصيتها لا تخلو مع هذا من دهاء واتساع حيلة، ما يمكنها من خوض العديد من الألاعيب التي يختلط فيها استخدام الأنوثة بالغرام الحقيقي بمحاولات الحفاظ على العرش - إن لم يكن الحفاظ على «الوطن» - وكل هذا بغية إعطاء النجمة دوراً يرضي توقعات الجمهور. > فالحال أنه لئن كان نجوم السينما قد أصبحوا خلال القرن العشرين أساطير معاصرة، لها جمهورها وحكاياتها وأسرارها، وأيضاً أساليب «فبركتها» والاشتغال عليها، فإن تلك الظاهرة كانت لها بداية أساسية وواضحة حملت اسم «تيدا بارا». وإذا كان هذا بالاسم يبدو لنا اليوم غريباً وغير ذي معنى في أي لغة من اللغات، فإن تفسيره ذو معنى، ويرتبط في شكل أساسي بجوهر اسطورة النجوم وسحرها. فتيدا بارا هو الاسم الذي آثرت أن تحمله، بدلاً عن اسمها الأصلي تيودوزيا غودمان التي كانت الأولى بين نجوم السينما التي يُصنع لها ومن حولها أسطورة مغرقة في الغرابة. ولقد نحت الاسم من الحروف التي تتألف منها كلمتان انكليزيتان هما ARAB DEATH (أي الموت العربي)، وكانت كل الصحف التي تتحدث عن نجمة العقد الأول من عقود تاريخ السينما التجارية هذه، تلح على المعنى الأصلي للاسم، لأن ذلك المعنى كان يعني الكثير لجمهور السينما في ذلك الحين. فالموت والعربي كلمتان كانتا ذات علاقة بسحر الرومانطيقية وكانت تلك العلاقة وحدها كافية لتفعل الأعاجيب في أذهان وأحلام جمهور فن السينما آنذاك. > من هنا فإن أي تحليل لسحر النجوم واشتغال أوالية تصنيعهم على ذهنيات الجمهور، لا بد له أن يأخذ في اعتباره نقطة السحر تلك وفعاليتها. هذا اضافة الى ان تيدا بارا نفسها كانت أول نجمة، في تاريخ السينما، بالمعنى الذي سيتحدث عنه مطولاً الفيلسوف الفرنسي ادغار موران في كتابه «نجوم السينما»: النجمة التي تضع اسطورتها على الشاشة وخارجها، والتي تعيش علاقة تماهٍ مع الجمهور وتُبتدع لها أصول ليست لها ومآسٍ لا تعيشها في الحقيقة. وهو ما فعله، حقاً، خبراء الدعاية في شركة «فوكس»، الشركة التي «اكتشفتها» وانتجت لها أول أفلامها. > فإذا كانت تيدا بارا في حقيقة أمرها ابنة لجندي، ها هي تتحول، في الأسطورة، الى ابنة غير شرعية لرسام فرنسي، ولأم مصرية. وها هي الفتاة تصبح مولودة في لهيب الصحراء، حيث تلتقي طوال سنوات طفولتها بأشخاص مقلقين مرعبين يطورون لديها تذوقها لفكرة الموت، وقدرتها على الإغواء. مسبغين عليها في الوقت نفسه نوعاً من الالتباس والغموض. وهكذا تكوّنت، اذاً اسطورة تيدا بارا، التي ظل الجمهور عشرات السنين يعتقد انها حقيقية، جاهلاً أن هذه الممثلة الحسناء انما ولدت في تشينشيناتي بولاية اوهايو في 1890، وعاشت طفولة عادية، واكتشفها ذات يوم وكيل فنانين، أدخلها عالم السينما منذ 1915، وابتدأ يحولها الى أسطورة كاذبة. والحقيقة أن تلك الاسطورة اشتغلت في شكل جيد، حيث أن غرابة الحكاية والجو الغرائبي وهوس تيدا بالموت، كل هذا تمكن من ان يثير حب وشغف كل الاميركيين الذكور بها. ومنذ تلك اللحظة لم تكف عن التمثيل في ادوار كانت غالباً ما تكون ادوار «المرأة التي تأكل قلوب الرجال أكلاً» ثم تكون لها نهاية غير مستحبة. وهكذا خلال السنوات الخمس الأولى بين 1915 و1920، والتي كانت على أي حال كل عمرها السينمائي، نجد تيدا بابا تلعب على التوالي «كارمن» و «الدوقة دي باريس»، «كليوباترا» و «غادة الكاميليا»، و «أزميرالدا» و «جولييت»، وحسبنا ان نذكر هذه الأدوار حتى ندرك عطر البخور ورائحة المسك والدموع وصولاً الى الفضيحة والموت التي خيمت على علاقة تيدا بارا بأدوارها السينمائية... > صحيح انه كان من حسن حظ تيدا بارا أن مثلت في أفلام حققها مخرجون متميزون، ومن هنا كان في شخصيتها في الوقت نفسه جانب فني مميز، كما أن الذين تحدثوا عنها، كامرأة حقيقية، لا كأدوار سينمائية ولا كأسطورة، تحدثوا عن فنانة حقيقية تحترم الآخرين والمخرجين، بل تعيش حياة حقيقية هادئة. غير انها أمام الصحافة كانت سرعان ما تتحول الى شيء آخر تماماً: كانت تبدي تصرفات غريبة واستعراضية، ودائماً تبعاً لنصيحة رجال الإعلام والدعاية في الشركات المنتجة بالطبع. وهكذا، مثلاً، في دارتها الفخمة في هوليوود، كان «يحلو» لها أن تتصور مع عمالقة زنوج ذوي عضلات مفتولة، او في غرفة مملوءة بالأفاعي المتحركة (التي سيعرف الجمهور لاحقاً انها كانت أفاعي مدربة غير مؤذية على الإطلاق). اما من ناحية الأناقة فإن اشهر صورها كانت تلك التي ترتدي فيها معطفاً من الفرو الثمين وتجلس على مقدم سيارة بيضاء لامعة فخمة. > كانت تلك هي الصورة التي فرضتها عليها شركة «فوكس»، ونقلتها الى الجمهور محركة مخيلات هذا الجمهور وحماسته لها... غير أن هذا الجمهور سرعان ما فقد حماسته، بعد أن تكاثرت النجمات وبدأ يكتشف زيف معظم الحكايات التي تروى عنهنّ. وهكذا ما ان مضت خمس سنوات على بدء اشتغال بارا في السينما حتى كان الاهتمام بها قد بدأ يذوي. وفي نهاية العشرية الثانية من القرن العشرين كانت قد انتهت كنجمة، حتى وإن كانت قد قامت بمحاولتين لاستعادة مكانتها في 1925 لكن المحاولتين اخفقتا. وعند حلول السينما الناطقة محل السينما الصامتة كانت تيدا بارا قد انتهت تماماً. ومع ذلك عاشت حتى شهر نيسان (أبريل) 1955، تجتر ذكرياتها على هامش الحياة السينمائية الهوليوودية، وهي توفيت ذات يوم، قبل زوجها المخرج تشارلز براين، بعامين. وبراين هو الرجل الوحيد الذي عاشت معه حقاً، وهو الذي أخرج بعض أفلام مجدها القديم.

مشاركة :