وحده الأديب العظيم تختلف حوله الآراء ويختصم الجمهور ويتقاتل النقاد، ونجيب محفوظ واحد من هؤلاء العظام الذين دارت حولهم حلقات كثيرة من الخلافات والانتقادات، وانقسم الجمهور والنقاد بين مؤيدين ومعارضين، وكان من بين هذه الحلقات الخلافية رؤية نجيب محفوظ للمرأة وتصويره لها، فزعمت جماعة أن أديب نوبل صوّر المرأة دائما على أنها إما ضعيفة مستكينة لا رأي لها، وإما على أنها عاهرة. والحق يُقال: نعم، وُجدت هذه النماذج في روايات نجيب محفوظ ولكن على التوازي وُجدت أنواع وأنماط أخرى للمرأة في أعماله؛ وسنحاول من خلال هذا المقال رسم صورة وملامح للمرأة القوية في روايات نجيب محفوظ . تتعدد صورة المرأة القوية في الروايات المحفوظية، فقد تكون قوة المرأة متمثلة في السيطرة والسطوة وبسط النفوذ، وقد تتمثل في الشخصية القوية المحافظة على كيان الأسرة ومنع عقدها من الانفراط، أو تتمثل في القوة المغلفة بالاستكانة والانكسار، أو تتمثل في القوة المانعة من الانحراف والانزلاق المنبثقة من قوة الإرادة والثبات على المبدأ. وغيرها من الأنماط. ونتعرض في هذا المقال للنموذج الأول: القوة المتمثلة في السيطرة والسطوة وبسط النفوذ، لقد وجدت في روايات محفوظ شخصية المرأة صاحبة النفوذ والسلطة والسيطرة، الباحثة عن السطوة أينما وجدت، فشخصية "رادوبيس" الغانية الراقصة في رواية "رادوبيس" التاريخية استحوذت على كل شيء حتى على عنوان الرواية نفسها، لقد كان قصرها الأبيض في بيجه قبلة العشاق والشعراء ورجال السياسة والحكم وكبار التجار والفنانين، تُقدَّم لها الهدايا النفيسة قربانًا كما كانت تُقدَّم للآلهة، ثم تستطيع أن تستحوذ على قلب الفرعون ذاته، فيتخلى الفرعون عن مملكته وشعبه وواجباته ويهيم في غرامها، بل يتنزع أراضي المعابد من الكهنة وينفقها على تأثيث قصرها وتزيينه بالتحف والتماثيل، ويتحول لملك عابث لاهٍ غير مقدر للعواقب لا يفكر سوى في محبوبته "رادوبيس" ويثور الشعب ضده ويصيبه سهم نافذ وحين شعر بدنو الأجل يطلب أن ينقل لقصر رادوبيس ليموت في أحضانها. هكذا استطاعت رادوبيس السيطرة على كل من خالطها واستحوذت على قلوب الناس المحيطين بها، لقد كانت كما وصفها "طاهو" قائد جيش الفرعون بقوله مخاطبًا إياها حين وقع فرعون في غرامها: "تحرك شيطانك القديم، شيطان الغرور والكبر والقوة، ذلك الشيطان يحتمي ببرودة قلبك الأبدية، ويتلذذ بمشاهدة عذاب الآخرين والتحكم في المصائر، لقد لاح له اسم فرعون فتمرد، وأراد أن يجرب قوته وسطوته، ويمتحن سلطان هذا الجمال اللعين، غير عابئ بما يدوس في سبيله الشيطاني من أشلاء القلوب، وذوب النفوس، وأنقاض الآمال". هكذا كانت رادوبيس المرأة المسيطرة القوية صاحبة النفوذ والسلطة والسطوة معًا. وتجلى نموذج المرأة المسيطرة الطامحة للسطوة بكل ما تعني الكلمة من معانٍ في شخصية "زهيرة" في الحكاية السادسة من ملحمة الحرافيش، ربّاها المعلم عزيز قرة الناجي في بيته لأن والدها كان من عماله ولقي حتفه وهو ينقل حمولة من الغلال، وبعد فترة من الزمن ازدهرت فيها الفتاة ونضجت طلبها "عبد ربه الفران" للزواج وتم ذلك، وقد دُعيت "زهيرة" لتودع سيدها عزيز وتقبل يده "دخلت الفتاة مسربلة بالحياء والارتباك ثم وقفت عند الباب. نظر نحوها مشجعًا. ثبت بصره عليها ثواني ثم سرعان ما استرده. فر ببصره. حافظ على وقاره الظاهر تحت عيني أمه وزوجته. كتم الدهشة في أعماقه. دهشة عنيفة جامحة. كيف دفن هذا الكنز في جناح أمه؟ كيف أخفى سره عنه؟ إنها قوام رشيق لا يتأتى لراقصة. وصفاء بشرة لا يحظى به بشر. وفتنة عينين مسكرة مخدرة. إنها روح الجمال الفتاك" . وتيقن المعلم عزيز أنه سيرى ذات يوم معجزة. زُفَّت زهيرة إلى عبد ربه الفران في حفل متواضع. وطالبها أن تعمل لأن "اليد البطالة نجسة" - على حد قوله – فانطلقت للطريق تبيع الملبن وبراغيت الست، وبانطلاقها للطريق اكتشفت ذاتها، تنبهت إلى سحرها وقوتها، تلتهمها الأعين، وتتغنى الألسنة بالثناء، ويزيدها ذلك ثقة وتيهًا ودلالاً، ثم أنجبت جلالا، وبعد فترة طلبتها رئيفة هانم لتعمل في خدمتها، ولبّت زهيرة الدعوة ، وهناك تعرفت إلى المعلم محمـد أنور تاجر البطارخ الذي وقع في غرامها والانشغال بها، وحين نظر لعينها أول مرة قال في سره "الغياث بالله من صنع الله". ولاحظت نظراته الملتاعة، وباتت تدرك تمامًا أنه ما من رجل رآها إلا وجن بها. أصبحت تؤمن تمامًا بأنها أجمل من جميع هوانم الحارة. من هنا بدأت زعزعة الاستقرار الكامن في نفس زهيرة واكتشافها قيمتها وجمالها، وأنها تستحق شخصًا أفضل من عبد ربه الفران، ثم صارحها محمـد أنور بحبه فـ "عاشت في دوامة من التمرد والتحفز. على الحياة أن تُغير وجهها. القوة كفيلة بأن تُغير أبعاد الكون. كل دقيقة تمر بلا تغيير انتصار للذل والتعاسة. ولكن كيف تخوض المعركة"، ثم افتعلت مشكلة مع عبد ربه الفران، وغادرت البدروم قاذفة بالماضي في أحضان الفناء، ويتدخل نوح الغراب الفتوة ويستدعي عبد ربه الفران ويأمره بأن يطلق زوجته، ولم يجد عبد ربه الفران سبيلاً سوى الإذعان، وهنا أدركت زهيرة جانبًا مهمًا في الحياة وهو مكانة الفتوة؛ "الفتونة حلم الخيال الأبدي. حسرة آل الناجي المهلكة، ذروة الحياة المتلفعة بأضواء النجوم". ثم تزوجت زهيرة من محمـد أنور وأدركت معه قيمة المال والغنى والثروة، فاستشعرت جانبًا جديدًا من جوانب السطوة وقواعدها (الجمال – القوة – المال). ولكنها شعرت بالحاجة للحرية والانطلاق، فتكرر خروجها من البيت وغضب زوجها لذلك، ونشب الخلاف، فقررت الاستشفاع بالمعلم عزيز الناجي وجيه الحارة. لم تحقق لها شفاعة المعلم عزيز ما كانت تصبو إليه، بيد أنها فتحت أمامها أبواب المجهول، قالت لنفسها "إن المعلم عزيز معجب بها. بل أكثر من ذلك. لقد أدلت عيناه باعترافات فاتنة فمتى بدأ ذلك؟ حقًا ما من رجل رآها إلا وفتن ولكن هل المعلم عزيز مثل سائر الرجال؟ ثم إنه متزوج وهي متزوجة. متزوجة من صديق. وما أزهدها هي في علاقة غير مشروعة. ما فائدتها؟ إنها تطمح إلى اكتساب حق. في سبيل ذلك وطئت قلبها بلا رحمة. في سبيل ذلك تحس أحيانًا بجيشان الجنون السامي في قدح من الخمر المقدسة. وتراءى لها عزيز سماحة الناجي في هالة حلم وردي لم تدر كيف يمكن أن يتجسد لها في عالم الحقيقة. هل يمكن ذات يوم سحري أن تصبح ضرة لألفت هانم، وشبه ابنة شرعية لعزيزة هانم؟ هل يمكن أن تتسلطن يومًا في دار فاخرة وتستقل بالدوكار ذي الجرس الرنان؟ وتضاءل محمـد أنور حتى انقلب ذرة من سخام متطايرة فوق أديم طريق طويل ليس له نهاية". من هنا أدركت أن محمـد أنور لم يعد شيئًا ذا بال، هناك من هو أقوى منه وأجدر لتحقيق طموحها. ثم ولدت راضي الابن الثاني لها، وجاءتها رسالة عن طريق الداية أم هشام عن رغبة (نوح الغراب) الفتوة في الزواج منها، وظلت تقارن بين عزيز ونوح الغراب؛ عزيز الغني ونوح القوي. وعزيز ذو قوة أيضًا كما أن نوح ذو ثروة تتزايد مع الأيام. عزيز له زوجة ونوح له أربعة وقطيع من العيال. لا غنى عن القوة، ولا غنى عن المال. المال يخلق القوة والقوة تخلق المال. ترى كيف تسير الأمور؟ إنها تؤمن بأنها لم تكد تبدأ بعد. وهي تفكر في ذلك كله وهي قريبة من أنفاس محمـد المترددة. إنها تفاضل بين القوة والمال، وترسم مستقبلها على خطيهما وحاول محمـد أنور أن يتقرب لها بما يجعله ذا مكانة أثيرة عندها، فأهداها عقد شراء صوري تصبح به مالكة بيته؛ وهو بيت ذو ثلاثة طوابق وأسفله دكان الفول لعله يسترضيها، ومن جهة أخرى حاول أن يتقرب لـ نوح الغراب ويستظل بحمايته فأهداه صرة جسيمة من المال، ولكن الفتوة أجابه "سبق القدر"، وأمره أن يطلق زوجته، وأقدم محمـد أنور على ما لم يقدم عليه أحد من قبل فشكا الفتوة لمأمور القسم فؤاد عبدالتواب، واستدعى المأمور نوح الغراب وطلب منه أن يجد محمـد أنور في كنفه الأمن. ودخل المأمور كذلك في الصراع على (زهيرة) فما إن رآها حتى تعلق بها، فقد "لاحظت زهيرة أن المأمور فؤاد عبد التواب (يصادفها) في السكة الجديدة وهي راجعة من زيارة الحسين. وأكثر من مرة لاحظت أنه يثقبها بنظرة حادة جامحة جائعة. وغمغمت لنفسها (حتى المأمور). و"بدا الميدان ساخرًا وحافلاً بالفتن. مثل جراب الحاوي الملئ بالفئران والقطط والثعابين . وهزها طرب الخيلاء . وتهيأ لها أنها تمتطي نسرًا خرافيًا ترف جناحاه بالقوة والإلهام والخلق. عزيز، نوح الغراب، فؤاد عبدالتواب، السحر والحب وقمة المجد المكللة بالنجوم. وتتابع نبض قلبها، وعند كل نبضة تتشكل صورة براقة تخرق كل مألوف". إنها الآن تقارن بين القوة (نوح الغراب)، المال والوجاهة (عزيز الناجي)، السلطة (المأمور فؤاد عبد التواب). ثم استدعى المأمور محمـد أنور وأخبره أنه لن يستطيع توفير الحماية له، لذا عليه أن يطلق زوجته، وهنا قرر محمـد أنور أن يهرب هو وزهيرة ولكنها رفضت واحتدم النقاش واستعر الخلاف، تهجَّم عليها، فصرخت بأعلى صوتها، كسر الباب. تدفق إلى الداخل نوح الغراب، المعلم عزيز، وجبريل الفص شيخ الحارة. تراجع محمـد أنور. سقطت زهيرة مغمى عليها. دوى صوتا جلال وراضي. شغل الرجال بإعادتها إلى الوعي. أفاقت. اختفى محمـد أنور تمامًا. هرب الزوج وطُلقت غيابيًا، واشتعلت الحرب عليها مرة أخرى، فجاءها جبريل الفص حاملاً رسالة من المأمور يطلب الزواج منها، وكذلك جاءتها أم هشام الداية حاملة رسالة من نوح الغراب يطلبها للزواج، وأخذت تفاضل بين الرجال "ما المأمور؟ ماذا يستطيع أن يعطيها إلا اسمًا ومظهرًا فارغين؟ ربما كان عزيزًا أفضل الثلاثة ولكن نوح الغراب قوة لا يمكن تجاهلها. وهو أيضًا القوة الحقيقية والسيطرة غير المحدودة" وقررت حسم الأمر لصالح الفتوة (القوة غير المحدودة) نوح الغراب على أن يطلق زوجاته الأربع؛ فـزهيرة لا تكون ضرة لامرأة وطلق نوح الغراب زوجاته الأربع. زلزلت الحارة بالخبر، كما زلزلت به أسرات أربع، وتردد اسم زهيرة على الألسنة كأنشودة للجبروت والقسوة. تلقى المأمور الخبر فعض على شفتيه، وعلم به عزيز فذهل ولكنه انطوى على أساه في صمت. وسارت زفة نوح الغراب في موكب ضخم، وفي أمان من عهود الصداقة بينه وبين فتوات الحارات المجاورة. غير أنه حدثت مفاجأة لم يتوقعها أحد إذ تحرش فتوة العطوف بالزفة خارقًا العهد والذمة. ونشبت المعركة دامية. وسرعان ما ظهرت قوات من الشرطة كأنما كانت متربصة للحظة مناسبة. عملت القوات على فض المعركة بلا هوادة. وإذا برصاصة تصيب العريس فترديه قتيلاً. والأدهى من كل ذلك شعور زهيرة نفسها؛ لقد "اكتأبت لذلك ولكنها صرفته عن بالها بإرادة من حديد. وحسبت الثروة التي ستؤول إليها ببهجة عميقة استقرت تحت قشرة الحداد. سرعان ما أفاقت من الصدمة فغمرها الارتياح. ها هي تتمتع ببعض جاه الفتونة دون أن تؤدي ثمنها لرجل لم تشعر نحوه بأي عاطفة طيبة قط. الأجدر أن تعترف بأنه قتل في اللحظة المناسبة قبل أن ينتهك حرمة جسدها الجميل. وإنه لقي الجزاء الذي يستحقه كل طاغية قذر. "وطلبها المأمور للزواج عن طريق جبريل الفص، ولكنها لم تعد تتطلع للمأمور، لقد شعرت بداخلها أنها أقوى منه، بل "إنها اليوم أغنى من المأمور وقسمه جميعًا". ومضت تفكر في عزيز باعتباره "لؤلؤة ثمينة صالحة لتتويج أحلامها"، واستعملت سحرها ودلالها لدى (عزيز الناجي) الذي استغل معارفه وصلاته فصدر أمر بنقل المأمور فؤاد عبدالتواب للصعيد، وهنا ظهر جانب خفي لـ (زهيرة) في نفسها "فقد أسكرتها الخيلاء، فآمنت بأنها الفتوة الحقيقي وراء الأحداث. قالت أنا العقل، أنا الإرادة، أنا الجمال، أنا الفوز". واستسلم المعلم عزيز إلى قدره فيما يشبه السحر وتزوج من زهيرة، ومضت الحياة حافلة بكل أشكال النعم، وتعاظم شعور الكبرياء في نفس زهيرة، فهي سيدة الكبرياء وأحق الناس به بما وهبها الله من جمال وذكاء آمنت بأنها فتوة في إهاب امرأة وأن الحياة المقدسة لا تمتثل إلا للأقوياء. وكانت تمضي بالدوكار كل أصيل إلى جامع الحسين، وذات مرة وهي تغادره كالعادة وسط مظاهرة من الشحاذين والمجاذيب. وإذا بمحمد أنور ينقض عليها يهشم رأسها، لم يبق من وجه البهاء والجمال إلا عظام محطمة غارقة في بركة من الدماء. لقد كانت زهيرة مثالاً للكبرياء والطموح غير المحدود ؛ فكلما وضعتها الأقدار في مكانة تطلعت للأعلى غير مبالية بما تطؤه في سبيل ذلك كم قلوب وقيم وبشر وأنفس. طمعت في المال، ثم القوة، ثم النفوذ، ثم المال والقوة، وتتصرف بزمام الأمور. وحاولت ذلك من خلال المال (محمـد أنور)، ثم رأت أن المال مع الضعف لا قيمة له، فتطلعت للقوة والسيطرة غير المحدودة (نوح الغراب)، ثم تطلعت للنفوذ والقوة والمال والجاه معًا فكان (عزيز الناجي) . فمن قائلٌ بعد هذا أن المرأة في روايات نجيب محفوظ ضعيفة ومستعبدة وخاضعة وخانعة ومستكينة؟
مشاركة :