مهاب نصر| ما شهدته مجتمعاتنا خلال العقدين الأخيرين من تغيرات حادة لم يطل فقط إعادة تشكل الخرائط، والأوضاع الجيوسياسية، وما ترافق معها من هجرات بسبب العمل أو تلك المدفوعة تحت قهر نيران الحروب والمجاعات، وإنما طال العلاقات الإنسانية، وموقع المواطن من الدولة، ووصل إلى التغير في نبرة التعبير الفردي. اعتبره عالم الاجتماع ريتشارد سينيت تحللا لإطار النظام الحديدي الذي رافق الرأسمالية الصناعية. واعتبره زيغمونت باومان حالة من السيولة انعكست على أطراف النشاط الإنساني كافة.خارج الشرط المسبق ربما تبدو العودة هنا إلى حنة أرندت في كتابها «الوضع البشري» مفارقة زمنية، فهل يصلح ما كتب في أواسط القرن الماضي لإلقاء الضوء على الحياة الراهنة التي تجتاحها عواصف التغيير؟ تبدأ أرندت كتابها من نقطة مثيرة للغاية؛ وهي وصول أول مركبة فضائية للقمر. هذا الحدث الكبير تتخذه أرندت للدلالة على سمة جوهرية لما تسميه «الوضع البشري»، وهو أن الإنسان هو ذلك الكائن الذي لا تحده فقط الشروط السابقة لوجوده (الطبيعة والخصائص البيولوجية..) فهو نازح دائما، وساع للتخلص من هذه الشروط، ومن ثم فإن أي محاولة لتعريف الإنسان أو الوضع البشري باختزاله في وضع مسبق وخارجي ليست صحيحة، فلا مسار التاريخ ولا الطبيعة وشروط البقاء كافيين لحصر تعريفه ووجوده. ولا يعني ذلك إنكارا لتلك الشروط المسبقة، بل إن أرندت تركز على أن الوجود في العالم هو شرط أساسي للوجود البشري، ولكنه وحده لا يبرر ما يتمتع به إلانسان من رغبة في تجاوز قيود الطبيعة، أو السعي إلى الخلود.مجالات الحياة لكن ليس هذا هو أهم ما يقدمه الكتاب، بل نظرته إلى طبيعة تطور المجالات الثلاثة: الفردي/ الشخصي، والاجتماعي، والسياسي، استنادا إلى التاريخ الأوروبي الذي تعود به إلى وضع المدينة الدولة في العصر اليوناني القديم. تصف أرندت ثلاث خصائص أساسية للبشر هي: العمل، والأثر، والفعل. وتعني أرندت بالعمل قوة تحويل الطبيعة والسعي إلى حفظ الأرواح. فهي تقصد منه تلك الضرورة الحيوية الملازمة لوجود الإنسان. وفي صدد العمل ينتج الإنسان آثارا، هذه الآثار بدورها تمثل شروطا جديدة لوجوده. إنها تصبح منفصلة عنه وربما أكثر دواما من وجوده. وهو ما يوقظ فكرة الخلود، خلود الإنسان من خلال آثاره وعمل يده. أما الفعل فتعني به ذلك الذي لا يهدف إلى مجرد حفظ البقاء والكيان والدفاع عن النفس، بل ذلك الساعي تحديدا إلى الخلود، إنه الفعل الفردي الذي يجعل من الإنسان ليس مجرد فرد من نوع، يمكن إحصاؤه واختزاله في نوعه، بل يحقق له خصيصة وسمة لا يمكن تكرارها. فالإنسان، بما هو فاعل، وجود لا يتكرر ولا يمكن اختزاله كمجرد رقم من مجموع.البيت والسياسة تذكرنا أرندت بحياة اليونانيين القدامى وكيف كانت الحياة مقسمة بين أمرين: حياة البيت الخاصة، وهي حياة العمل والزواج والعائلة، حياة حفظ النوع والكيان. والمجال السياسي. وتبين أرندت أن معنى المجال السياسي لدى اليونان كان مختلفا، فقد كان مجال إظهار الفردية والعمل البطولي المفارق من قبل أناس يشعرون بالمساواة. وليست مساواة المجتمع اليوناني مساواة طبقية، ولا تلك المساواة الطبيعية (أن كل البشر متساوون كما نظر جان جاك روسو) بل المساواة في التفرد واستقلال الرأي والفعل. وحين رأى الفلاسفة أن المجال السياسي أو ممارسة السياسة لا يمكن فقط أن تكون تعبيرا عن التفرد والبطولة، وأنها بطبيعة تورطها في الشأن اليومي قابلة للتلوث، سعوا إلى نقطة أعلى للخلود، فوضعوا الفيلسوف فوق السياسي. واعتبروا حال التأمل والسعي إلى الحقيقة الخالدة هو ما يسم الإنسان، أو ما ينبغي أن يكون عليه.فكرة المجتمع وتؤكد أرندت أن هذه الحال لم يكن لها أن تنجح إلا في مجتمع صغير محدود في عدد سكانه. أما وقد تنامت المدن على مدار عصور حتى وصلنا إلى العصور الحديثة فقد جرى تغير جذري، بل انقلاب بمعنى الكلمة. لقد تطور عمل الإنسان، ولم يعد مقصورا على البيت والعائلة، جرى تنظيم واسع لقوة العمل، وخرج الاقتصاد من مجرد التدبير المنزلي البسيط، إلى ساحة المجال العام، وهو ما أوجد، برأي أرندت، للمرة الأولى فكرة «المجتمع» كما نعرفها الآن. المجتمع إذن هو تحول لما كان خاصا إلى مجال عام. تدبير الشأن الاقتصادي لم يعد موكولا إلى أسرة صغيرة، بل مجتمع منظم، ولم تعد السياسة في هذا المجتمع أكثر من سياسة التدبير، لا الإبداع الفردي، ولا البطولة الساعية إلى الخلود. ففي مجتمع مكتظ بالسكان معتمد على التدبير المنظم والحساب الرياضي، لم يعد ثمة مجال للنزق الفردي، والطموح الخاص.انقلاب الأدوار ماذا يتطلب المجتمع؟ إنه يطلب منا أن نحافظ على السلوك العام الشائع، يفقدنا فرديتنا، يصبح سعينا لا من أجل تحقيق الذات، ولكن من أجل الكفاية والأمان، وهما الخاصيتان اللتان كان يتكفل بهما من قبل المجال الخاص للأسرة. أين تذهب الفرادة إذن؟ إنها، للمفارقة، تصبح في هذا المجال الخاص، إن مكانها ليس المجتمع لكن الحياة الخاصة. من هنا ارتبطت الخصوصية بمكونات البيت، والحميمية المعاصرة، مقابل طغيان المجتمع وشروطه الموحدة. لكن ثمة تطورا آخر تنذر به أرندت، وهو أنه مع التجريد الشديد لقوانين المجتمع والسوق، قد يختفي قهره وطغيانه المباشر. نعم، نحن نشعر فيه كأفراد لكن ليس بالمعنى اليوناني القديم، بل بمعنى النجاح. يحل النجاح محل البطولة. وتصبح الكفاية والامتلاك، لا الخلود، مدار المباهاة. ويسعى الإنسان أكثر فأكثر إلى اعتبار الشرط البشري خارجا عنه، ومن ثم يفقد السيطرة على وجوده أو بالأحرى معنى وجوده. لا تقدم أرندت لائحة اتهامات، لكن تحذيرا من تبعة اختزال الإنسان، في العمل والأثر، ونكران الفعل، وبالتالي في كسره لأحد شروط وجوده البشري الذي ربما يتسبب في القضاء عليه، أو طرده خارج ذاته إلى الأبد.
مشاركة :