الآن وبعد مرور قرابة سبعة أشهر على تولي الرئيس الاميركي دونالد ترامب منصبه، يمكننا أن نقيم بثقة اكبر آفاق الاقتصاد الأميركي وصنع السياسات الاقتصادية تحت إدارته. وكما هو الحال في رئاسة ترامب بشكل عام، فإن المفارقات كثيرة. اللغز الرئيسي هو الفصل بين أداء الأسواق المالية والواقع. ففي حين تستمر اسواق الأسهم في بلوغ مستويات قياسية جديدة، نما الاقتصاد الأميركي بمتوسط %2 فقط في النصف الأول من عام 2017، وهو معدل نمو أبطأ مما تحقق في عهد الرئيس باراك أوباما، وليس من المتوقع أداء أفضل بكثير لبقية العام. ولا يزال المستثمرون في سوق الأسهم يأملون في أن يتمكن ترامب من انتهاج سياسات لتحفيز النمو وزيادة أرباح الشركات. وعلاوة على ذلك، يشير النمو البطيء للأجور الى ان التضخم لا يصل الى المعدل المستهدف من قبل مجلس الاحتياطي الفدرالي الاميركي، ما يعني ان مجلس الاحتياطي الفدرالي سيضطر الى ان يعيد اسعار الفائدة الى مستوياتها الطبيعية بوتيرة ابطأ بكثير مما كان متوقعا. انخفاض اسعار الفائدة الطويلة الأجل وانخفاض الدولار اخبار جيدة لأسواق الأسهم في الولايات المتحدة، وأجندة ترامب الموالية للأعمال لا تزال جيدة للأسهم الفردية من حيث المبدأ. وهناك الآن سبب أقل للقلق من أن برنامج التحفيز المالي الضخم سيؤدي إلى ارتفاع الدولار واجبار مجلس الاحتياطي الفدرالي على رفع اسعار الفائدة. ونظرا الى عدم فعالية ادارة ترامب السياسية، فمن الآمن ان نفترض انه ان كان سيكون هناك اي برامج او سياسة تحفيزية، فإنها ستكون أصغر مما كان متوقعا. ومن غير المرجح ان يتغير عجز الإدارة عن التنفيذ على جبهة السياسة الاقتصادية. إذ فشلت محاولات الجمهوريين في الكونغرس لالغاء واستبدال قانون الرعاية الصحية المعروف باسم أوباماكير، لأسباب ليس أقلها رفض الجمهوريين المعتدلين التصويت لمصلحة مشروع قانون من شأنه أن يحرم 20 مليون اميركي من تأمينهم الصحي. وتنتقل إدارة ترامب الآن إلى الاصلاح الضريبي، الذي سيواجه صعوبة في سنّه مماثلة لأوباما كير ان لم يكن اصعب. وكانت مقترحات الاصلاح الضريبي السابقة قد توقعت وفورات من الغاء أوباماكير، ومن «ضريبة القيمة المضافة على السلع المستوردة» المقترحة التي تم التخلي عنها منذ ذلك الحين. وهذا يترك للجمهوريين في الكونغرس مجالاً ضئيلاً للمناورة، ونظراً لأن قواعد تسوية الميزانية في مجلس الشيوخ الأميركي تتطلب من جميع التخفيضات الضريبية أن تدخل تغييراً على إيرادات الضريبة بعد 10 سنوات، ويتعين على الجمهوريين حينها إما خفض معدلات الضرائب بنسب أقل بكثير مما كانوا يعتزمون القيام به أصلاً، وإما اللجوء إلى تسوية للوصول إلى تخفيضات ضريبية مؤقتة ومحدودة. ومن أجل إفادة العمالة الأميركية وتحفيز النمو الاقتصادي، ينبغي على الاصلاحات الضريبية زيادة العبء على الأغنياء والتخفيف عن الطبقة العاملة والمتوسطة. لكن مقترحات ترامب ستفعل العكس: اعتماداً على الخطة التي تنظر إليها فان %80 – %90 من الفوائد سوف تذهب إلى ال %10 الأعلى دخلاً. أكثر من ذلك، الشركات الأميركية لا تكدس تريليونات من الدولارات نقداً، وترفض الاستفادة من الاستثمارات الرأسمالية لأن معدل الضريبة مرتفع جداً كما يدعي ترامب والجمهوريون في الكونغرس، بل لأن الشركات تكون أقل ميلاً للاستثمار لأن النمو البطيء للأجور يضعف الاستهلاك وبالتالي النمو الاقتصادي العام. وبعيداً عن الإصلاح الضريبي، فإن خطة ترامب لتحفيز النمو على المدى القصير من خلال إنفاق تريليون دولار على البنية التحتية لا تزال بعيدة عن التنفيذ، وبدلاً من الاستثمار الحكومي المباشر لهذا المبلغ، تريد إدارة ترامب توفير حوافز ضريبية متواضعة للقطاع الخاص لقيادة مشاريع مختلفة، ولسوء الحظ يتطلب الأمر أكثر من مجرد إعفاءات ضريبية لتنفيذ مشاريع البنية التحتية الكبيرة من البداية إلى النهاية، كما أن المشاريع الجاهزة للبدء فيها قليلة ومتباعدة. على صعيد التجارة، هناك أخبار جيدة وأخرى سيئة، الخبر السار هو أن الإدارة لم تتبع سياسات حمائية جذرية، مثل تصنيف بلدان كمتلاعبين في العملات، أو فرض تعريفات شاملة، أو الدفع بضريبة تعديل ضريبة القيمة المضافة على السلع المستوردة. والأخبار السيئة هي أن ترامب يلتزم بنظريته «اشتر الأميركي، ووظف الأميركي»، ومقترحاته الحمائية سوف تضر النمو أكثر مما ستوفر فرص عمل، وقد تخلى بالفعل عن الشراكة عبر المحيط الهادئ والمفاوضات حول الشراكة التجارية والاستثمارية عبر الاطلنطي مع الاتحاد الاوروبي، وهو يعيد التفاوض بشأن اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، وقد يحاول إعادة التفاوض على اتفاقيات أخرى للتجارة الحرة، مثل الاتفاق الثنائي مع كوريا الجنوبية، ولا يزال بإمكانه بدء حرب تجارية مع الصين من خلال فرض رسوم جمركية على الصلب والمنتجات الأخرى خاصة ان الصين لم تكن متعاونة في الرد على التهديد النووي المتصاعد في كوريا الشمالية. كما يمكن لترامب ان يحد من امكانات النمو في الولايات المتحدة من خلال تقييد الهجرة. وبالاضافة الى منع الزائرين من ستة بلدان ذات اغلبية مسلمة، فان الادارة عازمة على تقييد الهجرة للعمال ذوي المهارات العالية، كما انها تزيد من ترحيل المهاجرين غير الحاملين لوثائق. والى جانب الجدار الحدودي الذي صاحبه صخب كثير، سيعمل كل ذلك على خفض المعروض من العمالة في المستقبل وبالتالي النمو الاقتصادي، وخاصة مع استمرار كبر اعمار الشعب الاميركي والتسرب من سوق العمل. وأخيرا، لن تؤدي اجندة ترامب لالغاء الضوابط التنظيمية الى تعزيز النمو الاقتصادي، بل قد تضعفه على مر الزمن. واذا تم تخفيف اللوائح المالية كثيرا، فان النتيجة يمكن ان تكون فقاعة اصول وائتمان اخرى، وحتى ازمة مالية اخرى وكسادا. وفي الوقت نفسه، فان قرار ترامب الانسحاب من اتفاق باريس بشأن المناخ، بالاضافة الى تخفيف اللوائح البيئية، سيؤدي الى تدهور بيئي ونمو ابطأ في صناعات الاقتصاد الأخضر مثل الطاقة الشمسية. كما ان ضعف حماية العمالة سيزيد من تقليص القدرة التفاوضية للعاملين، مما يؤدي الى خفض نمو الاجور والاستهلاك الكلي. ولا عجب ان النمو الفعلي والمحتمل عالق عند حوالي %2. نعم، التضخم منخفض، وأرباح الشركات واسواق الاسهم في ارتفاع. لكن الفجوة بين وول ستريت والناس العاديين آخذة في الاتساع. ولا تعكس التقييمات السوقية المرتفعة التي تغذيها السيولة والوفرة غير المنطقية الحقائق الاقتصادية الأساسية. لابد من تصحيح السوق في نهاية المطاف. والسؤال الوحيد هو من الذي سيلقي عليه ترامب باللائمة هذه المرة عندما يحدث ذلك. ● نوريل روبيني استاذ في كلية شتيرن للأعمال في جامعة نيويورك. وكان اقتصاديا بارزا للشؤون الدولية في البيت الابيض في عهد بيل كلينتون وعمل في صندوق النقد الدولي والاحتياطي الفدرالي والبنك الدولي.
مشاركة :