سعدت كثيرا بتأسيس صالون الإسكندرية الثقافي الذي تنوي مكتبة الإسكندرية تنظيمه مرة كل ثلاثة شهور. والحق يقال إنه منذ أن تولى الدكتور مصطفى الفقي إدارة المكتبة، وقد شعرنا بإدماج أدباء الإسكندرية وكتابها ومثقفيها ضمن أنشطة المكتبة المتنوعة، وهو ما لم نكن نشعر به من قبل. وقد حرص الدكتور الفقي قبل أسابيع من إطلاق الصالون الثقافي على لقاء منفصل بأكثر من ثلاثين أديبا وكاتبا ومثقفا من أبناء الإسكندرية ليتعرف عليهم من قرب ويقرأ أفكارهم ويحاورهم ويلبي احتياجاتهم ومطالبهم ويعرف سر ابتعادهم عن أنشطة المكتبة، وكان لقاء مثمرا وهادفا للغاية. وفي هذا الاجتماع اقترحتُ على الدكتور مصطفى الفقي عودة ملتقى شعراء البحر الأبيض المتوسط الذي عقد لمرة واحدة بعد افتتاح المكتبة، ولم يتكرر ثانيةً، وقد استجاب الدكتور الفقي للاقتراح بل طوَّر من الفكرة ليكون ملتقى شعريا عالميا وليس فقط لشعراء البحر الأبيض المتوسط، ونحن في انتظار عقد هذا الملتقى الشعري العالمي على أرض الإسكندرية، تطبيقا لشعار المكتبة الذي رفعته منذ افتتاحها وأنها "عين مصر العالم، وعين العالم على مصر". أما في الصالون الثقافي الأول الذي عقد منذ أيام قليلة تحت عنوان "مستقبل القوة الناعمة المصرية"، فقد وجهت الدعوة لأكثر من خمسة وعشرين شخصا من كتاب الإسكندرية ومثقفيها إلى جانب عدد من أبناء المحافظات الأخرى ومنها القاهرة والبحيرة ودمياط. وقد عقد الصالون جلساته على مدى يومين متتاليين، الجلسة الأولى - وكانت في المسرح الصغير بالمكتبة - حاضر فيها البروفيسور الأميركي اوس جنيس عن الحرية في معناها العام، وقال إنه لا يخشي على الحرية إلا من الحرية، بمعنى أن الإفراط في الحرية قد يؤدي إلى نتائج عكسية غير مستحبة قد تؤدي إلى فقدان الحرية. وقد أسهب الرجل في حديثه الحرية والمسئولية، وتساءل: كيف يمكن أن نقيم أمةً ما؟ هل نقيمها بقوتها العسكرية أم بموقعها الجغرافي أم بمواردها الطبيعية؟ وللإجابة عن هذا السؤال علينا أولا أن نفهم ماذا تحب هذه الأمة؟ وقال "ما يحبه الأميركان هو الحرية؟" واستشهد جنيس بقول إبراهم لينكولن "إما أن نعيش أحرارا أو نموت منتحرين؟ وأضاف متسائلا "ما الذي يلزم لكي يكون لدينا مجتمع حر إلى الأبد؟" وأوضح أن إنشاء مجتمع يتمتع بالحرية يمر بثلاثة مراحل أساسية وهي الواجبات، والتحديات، وتجاوز المفارقة أو التناقض. ورأى جنيس أن نموذج الحرية الأميركي من أبرز النماذج وأكثرها بحثًا ونقاشًا. ولكن نماذج الدول لا يمكن تعميمها أو ضمان نجاحها في دول أخرى، لأن لكل دولة طبيعتها وظروفها الخاصة. وطالب جنيس الأديان الإبراهيمية الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام) بالتجديد والإصلاح بما يتوافق ويتجاوب مع احتياجات الناس في هذا العصر المشوش، مؤكدا أن هناك أمورا لا بد من إعادة النظر فيها. وانتقد الكنيسة الغربية واصفا إياها بأنها في فوضى وأسوأ مما كانت عليه قبل الإصلاح. وقد عقّب على حديث جنيس عدد كبير من المشاركين في الصالون، حيث تحدث الدكتور محمد رفيق خليل؛ رئيس أتيليه الإسكندرية، عن أسباب تحول المجتمع الأميركي من الإيمان بالحرية إلى ترويج البعض للفكر المتطرف والعنصري. وتساءلت الدكتورة إيمان رجب عن أسباب ربط الحرية بالأمن القومي، خاصة في فترة يعاني فيها العالم من التطرف والإرهاب، وكيف يمكن أن تكون اعتبارات الأمن مهددة للحرية في بعض الأحيان. وتحدث الدكتور أسامة الغزالي حرب عن مراحل تكوين مجتمع يتمتع بالحرية، وتساءل عما إذا كان من الممكن تطبيق تلك المراحل على المجتمعات العربية وخاصة المجتمع المصري. ووجه الدكتور حسن نافعة سؤالاً عن الفرق بين الحرية الفردية والحرية الجماعية، وعلاقة الحرية بالرأسمالية. وأعربت الكاتبة الصحفية أمينة شفيق عن سعادتها للاستماع إلى وجهة نظر أكاديمي غربي يرى أن الحرية كقيمة إنسانية هي إحدى القوى الناعمة، إلا أنها ترى أن الحرية الأميركية تختلف عن المفهوم الذي حاول تقديمه، لأنها ليست قوة ناعمة خاصة فيما يخص منطقة الشرق الأوسط. بعد هذه المحاضرة الفكرية الثرية، كانت هناك فسحة في صالون الإسكندرية الثقافي لفني السرد والشعر، حيث تم إدماج مختبر السرديات وديوانية الشعر العربي بالمكتبة، ضمن فعاليات الصالون الثقافي، فكان لقاء مختبر السرديات مع الكاتب الكبير محمد جبريل ومناقشة روايته الجديدة "ورثة المطعني"، بينما أقامت ديوانية الشعر العربي أمسية لبعض شعراء الإسكندرية والبحيرة. وشهد اليوم الثاني للصالون نقاشا موسعا حول "مستقبل القوة الناعمة" وأشار الدكتور مصطفي الفقي إلى أن مصر اعتمدت على القوى الناعمة، واحتضنت واستقبلت بلا تعصب كل أساطير الفن والأدب. كما قال إن التعليم هو الأساس وأن القوى الناعمة تراجعت بتراجع النظام التعليمي. وعلينا الاهتمام بالتعليم لأنه الجسر الذي سيفتح طريقا الي باقي الدول. وقال خالد البقلي أمين مجلس الأمن القومي إنه يجب الاهتمام بمشروع سياسي ثقافي تسعى اليه مصر كما يجب أن يكون لمصر استراتيجية وطنيه واقترح أن تقوم المكتبة بعقد مؤتمر سنوي عن قضايا المستقبل التي تهم الإنسانية. وقال الدكتور أحمد يوسف أستاذ العلوم السياسية جامعة القاهرة إن مصر بدأت تتوازن في الساحة الدولية، وأن لديها تنوعا فريدا من القوة الناعمة فنون، ادب.... ولديها تاريخ مجيد مثل إذاعه صوت العرب وتأثيرها العميق بعد ثورة يوليو، كما ذكر أن الإعلام من القوى التي تدهورت بسبب غياب الرؤية وأن علينا تطوير المعاهد والجامعات. وذكر الناقد السينمائي طارق الشناوي أننا دائما نتباكى على الماضي وعلينا أن نعيش المرحلة الحالية. وذكر ياسر عبدالعزيز أن القوى الناعمة لها أكثر من معنى فهي القدرة على الجذب والتأثير دون إجبار، بينما قال د. سليمان عبدالمنعم إن القوة الناعمة تعتبر سببا ونتيجة وأن علينا أولا طرح المفهوم، وذكر أن هناك مجالين محددين لهما علاقه بالقوة الناعمة وهما التعليم والتشريع وأضاف أن طرح المشكلة يساعد على الوصول للحل وأنه يجب ان نتخلص من نبرة الاستعلاء خارج مصر. وقال د. حسام بدراوي إنه في إطار التعليم أصبحت المعرفة متاحه بدون تكلفه وأضاف أن القوى الناعمة هي التأثير في الجمهور وصناعة وجدانه دون ضغط وهذا يحدث عبر السنين، وأضاف أن القوى الناعمة هي ثقافه وإعلام وتعليم. وتحدث الدكتور حسن نافعة عن العلاقة بين القوى الناعمة والقوى الصلبة لإنتاج القوى الذكية. وذكر أن نظام عبدالناصر تحطم بسبب عدم كفاءة النظام السياسي وغياب وقمع الحريات. وقفبل نهاية اللقاء تحدثتُ عن وضع الصحافة الثقافية في مصر وأشرت إلى أن معظم الصحف تقوم بإلغاء صفحاتها الثقافية إذا ورد إعلان أو خبر طارئ، بينما تبقي على الصفحات الرياضية، ونبهتُ إلى ضرورة وجود صفحة ثقافية يومية في كل الصحف اليومية. لا شك أن صالون الإسكندرية الثقافي قفزة إلى الإمام، وفي انتظار المزيد من قفزات مكتبة الإسكندرية في ظل الإدارة الجديدة الواعية التي يقود سفينتها الدكتور مصطفى الفقي ومساعدوه من أمثال د. خالد عزب ود. سامح فوزي وحسام عبدالقادر وغيرهم. أحمد فضل شبلول
مشاركة :