قصّة تونس من بورقيبة إلى الغنّوشي ومن بن علي إلى الحرّيّة

  • 9/23/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

في كتابها «الإسلام السياسيّ في تونس: تاريخ النهضة» (دار هِرست)، تزوّدنا آن وولف برواية شيّقة عن بلد كانت قواه تذهب دوماً إلى الأقصى، وكلّها تركت بصمات قويّة على تطوّره السياسيّ والثقافيّ. فالدعوات الإصلاحيّة المبكرة، إبّان حكم الباي أحمد في القرن التاسع عشر، أدخلت تعديلات على جامعة الزيتونة، ثمّ في عهد الباي محمّد صدر «عهد الأمان» الذي انطوى على المساواة المدنيّة والدينيّة. وفي 1860، وبهمّة ابن أبي ضيّاف وخير الدين التونسي، وُضعت مسوّدة الدستور الذي اعتُمد في 1861، مؤكّداً الحرّيّة الدينيّة والمساواة أمام القانون. وبعد تسلّمه رئاسة الحكومة، أنشأ خير الدين، عام 1875، «المدرسة الصادقيّة» التي صالح تدريسُها التقليد الإسلاميّ والعلوم الحديثة، كما أخضع الزيتونة للحكومة.   الثعالبي وبورقيبة وارتفع صوت النخبة الحديثة ممثّلةً بخرّيج الزيتونة عبدالعزيز الثعالبي. ففي 1904 انتقد الصوفيّة لمصلحة «تأويل عقلانيّ» للقرآن، ثمّ انخرط مع مجموعة من خرّيجي الصادقيّة في نشاط فكريّ-سياسيّ «علمانيّ». ففي 1907 شكّلوا حزب «تونس الفتاة» تيّمناً بـ «تركيّا الفتاة»، فدافع بعضهم عن الحدّ من دور الدين في المجتمع، وعن المساواة والحرّيّة المستوحيين من ثقافتهم الفرنسيّة. وهذا ما وسم النخبة الوطنيّة الأولى بميسم علمانيّ، وقدّم مثالاً مبكراً على استخدام القيم الغربيّة ضدّاً على الاحتلالات الغربيّة. فحين انفجر الاحتجاج على الفرنسيّين، اتُّهمت «تونس الفتاة» بالوقوف وراءه. لكنّ الحرب الأولى أضعفت قبضة فرنسا على محميّتها، وشجّعت على العمل الاستقلاليّ. وبالفعل ففي 1920 أصبح الثعالبي رئيساً لحزب يحمل اسم «الدستور»، انضوى فيه حِرَفيّون وتجّار ورجال دين وأعيان تضرّروا اقتصاديّاً من الحماية الفرنسيّة، داعين إلى دستور جديد وبرلمان منتخب. وفي 1924 تأسّس اتّحاد عمّاليّ يؤيّد «الدستور» سياسيّاً واستقلاليّاً ويتمايز اجتماعيّاً عن «نخبويّته». على أنّ «الدستور» بدأ في الثلاثينات يُنصت إلى الهمّ الاجتماعيّ، مستوعباً جيلاً جديداً ريفيّ الأصول ممّن درسوا في الصادقيّة. من هؤلاء كان الطاهر حدّاد الذي نشر في 1930 «امرأتنا في الشريعة والمجتمع»، فانهالت عليه انتقادات المؤسّسة الدينيّة ومعظم الناشطين الدستوريّين في آن. الجيل الجديد هذا اتّهم التقليديّين باللين حيال الفرنسيّين. وفي 1933 حين دعا الحبيب بورقيبة، وهو أيضاً من خرّيجي الصادقيّة، إلى الاستقلال، طُرد من الحزب. لكنّه بعد عام أنشأ حزب «الدستور الجديد»، فكان أشدّ إلحاحاً على الاستقلال وأيضاً على توسيع القاعدة الشعبيّة وكسر نخبويّة العمل الحزبيّ. وبالفعل امتدّ الحزب إلى سائر المناطق، وفي 1937 استقطب 28 ألف عضو، ما تعاظم مع الحرب الثانية وهزيمة فرنسا. ولئن طرح بورقيبة الحكم الذاتيّ كخطوة أولى إلى الاستقلال، واجهه الفرنسيّون بالصدّ والمنع من السفر، ففرّ من البلد تاركاً القيادة في عهدة الأمين العامّ صالح بن يوسف. لكنّ الأخير، على عكس الأوّل، هواه عربيّ إسلاميّ. والعروبة والإسلام يكادان يكونان واحداً في تونس، على عكس حال المشرق. لقد عني بن يوسف بموضوعات الهويّة فتحالف مع الزيتونيّين، وإذ استشعر الفرنسيّون أنّ بورقيبة «شرّ أصغر»، أتاحوا له العودة في 1949، فانعقدت هدنة بين الزعيمين. لكنّ الخلافات انفجرت في 1951 في موازاة صدام واسع بين الدستوريّين والزيتونيّين. أمّا بالنسبة إلى الدين فبدا بورقيبة متحفّظاً في خطبه، مراعياً حساسيّات القاعدة العريضة من المؤمنين. لا بل ذهب مرّةً إلى الدفاع عن الحجاب ضدّ «مشاريع الاستيعاب» الفرنسيّة. ومقابل الزيتونة وبن يوسف، دعم بورقيبة الاتّحادُ النقابيّ الذي ضمّ في 1951 مئة ألف عضو، وبات القوّة الثانية بعد «الدستور». وبنتيجة الاحتجاج الواسع على اغتيال القياديّ النقابيّ فرحات حشّاد، وعلى قمع تظاهرة زيتونيّة، وحصول عمليّات عسكريّة ضدّ أهداف فرنسيّة، بدأ الفرنسيّون مفاوضات مع الاستقلاليّين حول الحكم الذاتيّ فجّرت النزاع بين بورقيبة وبن يوسف. فالثاني هاجم الأوّل مشكّكاً بمدى استقلاليّته وبولائه للعروبة والإسلام، فطُرد من المكتب السياسيّ. وإذ تزايدت العمليّات العسكريّة ضدّ الفرنسيّين، فرّ بن يوسف إلى ليبيا.   الحكم البورقيبيّ ترك غياب بن يوسف الساحة لبورقيبة. لكنّ قوّته كانت لا تزال وازنة، خصوصاً في الجنوب. أمّا بورقيبة فأعلن، فيما الناصريّة تستولي على الأفق، أنّ الدولة الجديدة ستكون غربيّة العواطف والسياسة، ما فُهم منه إنكار أيّ حضور سياسيّ للعروبيّين الإسلاميّين. وإذ انتُخب رئيساً في 1957، مضى يستأصل نفوذهم. لكنْ في 1959، وبعد محاولة لاغتياله، أمر باغتيال بن يوسف في ألمانيا، وهكذا كان. وانطلقت عمليّة تفكيك للمؤسّسة الدينيّة ضاعفت تهميش البيئات التقليديّة العريضة. لقد ابتدأ مشروع التحديث البورقيبيّ بمصادرة أملاك المؤسّسة الدينيّة ومحاصرة الصوفيّين وعلماء الدين، كما عُيّن شيخ إصلاحيّ مؤيّد لبورقيبة، هو طاهر بن عاشور، على رأس الزيتونة. وكانت قد ألغيت المحاكم الشرعيّة، وحلّ قانون للأحوال الشخصيّة عزّز حقوق النساء، فيما بلغ استفزاز البيئة المحافظة مداه مع ظهور بورقيبة على التلفزيون وهو ينزع الحجاب عن وجوه محجّبات. وفي 1958 طرح بورقيبة برنامجاً جديداً للتعليم مهاجماً منهاج الزيتونة، ومكرّساً خُمس الموازنة لإرساء «تعليم أساسيّ شامل» على مدى عقد. هكذا استُقدم أساتذة من فرنسا مهّدوا السبيل لنظام ثنائيّ التعليم. وإذ انكمشت فرص العمل أمام خرّيجي الزيتونة، امتدّ الهجوم إلى الفرائض الدينيّة نفسها، كالحجّ والصيام. لكنّ أكثر التونسيّين رفضوا مواقفه، بمن فيهم بن عاشور والمفتي الأكبر عبدالعزيز جعيط، ففُصلا. وفي 1961 تململ المؤمنون بسبب تصوير فيلم «لصّ بغداد» الهوليووديّ في مسجد عقبة بن نافع في القيروان، ففُصل شيخان اعترضا، وسقط قتلى وجرحى على يد القوّات الحكوميّة. وبدوره صبّ الاقتصاد الزيت على نار التذمّر. ففي أوائل الستينات اتّبع بورقيبة سياسة اشتراكيّة لتوسيع حجم الدولة في الاقتصاد، فغُيّر اسم الحزب في 1964 من «الدستوريّ الجديد» إلى «الاشتراكيّ الدستوريّ»، وجيء بالنقابيّ البيروقراطيّ أحمد بن صالح لتنفيذ الخطّة الجديدة. لكنْ لئن فشلت الخطّة في إطلاق نموّ اقتصاديّ، فإنّها لم تفشل في جعل الدولة أكثر أوتوقراطيّة. ومثلما أدّى تعاظم دور بورقيبة إلى تعزيز رفض المؤمنين له، كذلك فعل الدور المتزايد لأقصى اليسار في تحدّيه النظام. لقد بدا أنّ هذين الطرفين يحتكران المجال العامّ الذي انسحب منه المؤمنون.   الجماعة الإسلاميّة منذ أواخر الستينات، بدأ يظهر لاعب جديد: إنّه «الجماعة الإسلاميّة» التي حاولت إعادة إحضار الإسلام في المجال العامّ، بقيادة مؤسّسيها الثلاثة، راشد الغنّوشي وحميدة النيفر وعبدالفتّاح مورو. والغنّوشي من عائلة محافظة وريفيّة في قابس، شرق تونس الأوسط، تأثّر بالقوميّة العربيّة ودرس في الزيتونة، وأواسط الستينات غادر إلى القاهرة معجباً بعبدالناصر، لكنّ تقارباً عابراً بين الزعيمين المصريّ والتونسيّ أدّى إلى طرده من جامعتها. وضاعف مرارته سحق الناصريّة للإخوان المصريّين، فبدأ يبتعد عن العروبة، لكنّه انتقل لدراسة الفلسفة في دمشق. هناك أكمل تحوّله وتبنّيه، أواسط 1966، الإسلام السياسيّ. ولم يكن لهزيمة 1967 إلاّ أن أكّدت له صحّة خياره. في هذه الغضون كانت أوضاع تونس تتردّى. ففشل السياسات الاقتصاديّة الجديدة أطلق، عام 1964، اعتراضاً في الساحل قادته البورجوازيّة الريفيّة المتضرّرة من التجميع الزراعيّ. هكذا قفز بورقيبة فجأة إلى سياسات ليبراليّة وجرّد بن صالح من مناصبه، ثمّ اعتقله بتهمة الخيانة العظمى. وإذ ضعفت صدقيّة النظام، حرّكت انتفاضة 1968 الفرنسيّة المشاعر المناهضة للأبويّة، فيما أوّلَها التقليديّون دلالةً على قصور طريقة الحياة الغربيّة. وبانتقال الغنّوشي إلى فرنسا لإكمال دراسته، جمعته نقاشات عدّة بالنيفر، الطالب الذي لم يكن قد بتّ مسألة القوميّة العربيّة بعد. لكنّه تعرّف هناك إلى «جماعة التبليغ» الباكستانيّين المهتمّين بـ «الدعوة». وإذ تأثّر بهم تحوّل إماماً في مسجد باريسيّ في إحدى الضواحي الفقيرة. لكنّ «التبليغ» باتوا، أواخر الستينات، على شيء من التأثير في تونس نفسها. هناك تأثّر بهم مورو، خرّيج الصادقيّة الصوفيّ، فبدا غريباً ونافراً في جامعة يحتكرها الدستوريّون واليساريّون وصداماتهم. وبعودة الغنّوشي إلى تونس، التقى الاثنان، قبل أن ينضمّ إليهما النيفر الذي تخلّى عن العروبة في باريس، ليؤسّسوا «الجماعة الإسلاميّة».   الإخوان وإيران والثلاثة وسّعوا نطاق حركتهم عبر «التبليغ»، رافضين بورقيبة واليسار. لكنّ همّهم التونسيّ أبعدهم عن مركزيّة التقوى الفرديّة عند «التبليغ». ولئن شمل وجودهم تونس كلّها، تركّزت قوّتهم في «السوق» وفي الجنوب والوسط، أي منطقتي بن يوسف المتذمّرتين من دور العاصمة. وهم استفادوا من اهتمام بورقيبة بتعليم الأرياف استفادتهم من شعور المتعلّمين الريفيّين بانسداد فرص العمل أمامهم، وبمعاناة التجّار والحِرفيّين في منافستهم السلع الغربيّة. كذلك قلّدوا الإخوان المصريّين في تنظيمهم واعتماد «العائلات» كوحدات تنظيميّة، لكنّهم استثمروا أيضاً غضّ النظر الرسميّ تبعاً لانشغال السلطة، بين 1968 و1974، بقمع اليسار، لا سيّما أنّ النظام راح، على الطريقة الساداتيّة، يساير النزعة الإسلاميّة. وبين الطلبة قوي الإسلاميّون، ساعدهم تدفّق كتب الإخوان من مصر السادات، فيما تأثّر الغنّوشي أيضاً بأفكار الجزائريّ مالك بن نبي، ما حدّ من سطوة سيّد قطب وأفكاره عليه. وفي 1972 أصدروا نشرة شهريّة سمّوها «المعرفة»، منتقدين أقصى اليسار وطريقة الحياة الغربيّة من دون اقتراح حلول سوى العودة إلى الإسلام. بيد أنّ أدلجةً أعلى أحدثها التخرّج المدرسيّ لجيلهم الأوّل من الناشطين ودخوله، أواسط السبعينات، الجامعات. ومن هؤلاء درس كثيرون العلوم والتقنيّة، كما كانوا ريفيّين. لقد بنوا الجوامع في الكلّيّات، وساجلوا اليساريّين بما أشعرهم بضعف تأهيلهم النظريّ، وفي 1977، أنشأوا «حركة الاتّجاه الإسلاميّ» الطلاّبيّة التي شددت على السياسة المباشرة وعلى الشأن التونسيّ بدل الاكتفاء بـ «الدعوة». وتبلور خلاف موازٍ بين أكثريّة «الجماعة» المتأثّرة بالإخوان، و «التقدّميّين الإسلاميّين» الداعين إلى «إسلام تونسيّ» يستلهم المعتزلة. لقد كان النيفر على رأس الأخيرين، فانتقد الإخوان المصريّين وحسن البنّا في مقال له عام 1978، ما أدّى إلى فصله من رئاسة تحرير «المعرفة». في هذه الغضون نشبت الثورة الإيرانيّة عام 1979، وكان الغنّوشي متأثّراً بكتابات علي شريعتي. وعلى العموم كان للثورة أثرها الباهر على إسلاميّي تونس، كسلاح لمواجهة حجج اليساريّين ولتوسيع قاعدتهم. لكنّ الانبهار لم يدم، إذ انقشعت سريعاً أوتوقراطيّة الخميني.   «حركة الاتّجاه الإسلاميّ» صيف 1979، استُبعد اسم «الجماعة» واعتُمدت «حركة الاتّجاه الإسلاميّ» التي سبقهم طلاّبهم إليها، دلالةً على مزيد من التسيّس والاكتراث بالشأن الاجتماعيّ. كذلك ناقشوا علاقتهم بالإخوان وتنظيمهم الأمميّ، وهو أمر ظلّ يلفّه الغموض والتضارب. وفي مؤتمرهم ذاك، أسّسوا «مؤتمراً عامّاً»، هو سلطة الحزب الأعلى، يلتقي كل ثلاث سنوات وينتخب الرئيس ومجلس الشورى. وقد انتُخب الغنّوشي رئيساً وصالح كركر، ذو الهوى الإخوانيّ، نائباً له. لكنّ بورقيبة الذي استفاق على نموّ الإسلاميّين، ما لبث أمنه أن اعتقل الغنّوشي ومورو أواخر 1979، ليُفتتح صراع أشرس من ذي قبل. على أنّ انشقاق النيفر لم يحل دون الخلاف بين مورو «البراغماتيّ» وكركر «الدوغمائيّ» حول تأويل النصوص والديموقراطية وحقوق المرأة. لكنّ قوّة كركر تعاظمت في التنظيم فيما كان يتنامى القمع ويقوّي حجج المتشدّدين. وفي 1980 وبعد اعتقال كركر وتعذيبه، كشفت السلطة التنظيم الذي حلّ مؤسّساته وانتقل كليّاً إلى العمل السرّيّ، كما استطاع، بشروط بالغة الصعوبة، أن يعقد مؤتمراً في 1981: هناك اقترح الغنّوشي، مدعوماً بمورو، التقدّم بطلب رسميّ للحصول على ترخيص شرعيّ، لكنّ كركر وغالبيّة الطلبة عارضوا، ثمّ توصّل الجناحان إلى تسوية تجمع بين السرّيّة والشرعيّة. يومذاك كانت السلطة تعلن نياتها بالانفتاح وإجراء انتخابات في 1981، كما كُلّف محمّد المزالي تشكيل الحكومة، هو المؤيّد لمحاورة الإسلاميّين والمعروف بدفاعه عن الهويّة العربيّة والإسلاميّة. وأغلب الظنّ أنّ ما حدا ببورقيبة إلى هذا السلوك رغبته بتطويق أعمال عنفيّة شرعت تظهر، لكنّ السلوك المذكور لا يسري على «الاتّجاه»، على رغم إعلانه رفض أعمال العنف. هكذا رُفض طلبه الحصول على شرعيّة العمل، ثمّ اعتُقل الغنّوشي ومورو وكركر. وما إن أجريت انتخابات 1981 حتّى «نال» الدستوريّون 94 في المئة، ولم ينل أيّ من الأحزاب الـ5 في المئة التي تتيح الحصول على الشرعيّة. وفي السجن ظهر التوتّر على علاقة الغنّوشي بكركر اللذين تبادلا الاتّهامات بصدد المسؤوليّة عن الضربة الأخيرة. وإلى قائمة الخلافات النظريّة الطويلة، انضاف العمل النقابيّ وإمكان العمل المشترك مع قوى يساريّة وغير إسلاميّة.   المزالي ثمّ بن علي جهود المزالي حقّقت بعض التقدّم، فتعهّد مورو احترام العمل السياسيّ وأُطلق سراح معتقلين. وفي 1984 انعقد مؤتمر لـ «الاتّجاه» تواجه فيه الجناحان، لكنّ الوضع العامّ كان، أيضاً وأيضاً، يخدم كركر. هكذا جُدّد العمل بالتسويات، وانتُخب الغنّوشي رئيساً، وكركر رئيساً لمجلس الشورى، تؤيّده الأكثريّة. لقد انخرط «الاتّجاه» في العمل النقابيّ وباتت له حصّة تمثيليّة وازنة، كما خطّط للعمل في المؤسّسات الرسميّة والتعاون مع جمعيّات حقوق الإنسان. كذلك شارك في الاحتجاجات الشعبيّة التي انفجرت ثانيةً في 1984 ردّاً على ارتفاع أسعار السلع الأساسيّة. وفي مناخ الصدام، والاتّهامات الرسميّة للإسلاميّين، عُيّن زين العابدين بن علي مديراً عامّاً للأمن. مع هذا، استقبل مزالي الغنّوشي ومورو أواخر 1985، وأعلن النيّة بتطبيع وضع «الاتّجاه»، لكنْ بعد أشهر عُزل مزالي، وفي 1987 اعتقل الغنّوشي وتلت موجة قمع أخرى، فيما كانت تتعاظم رغبة الشبّان الإسلاميّين بالعنف. ولئن تسلّم كركر القيادة، نفّذ منشقّون عن «الاتّجاه» سمّوا أنفسهم «الجهاد الإسلاميّ»، عمليّة إرهابيّة، فاتّهم بورقيبة «الاتّجاه» وأصدر أحكاماً بالإعدام على بعض قادته، لكنّ بن علي لم يوافق إذ لم يُرد «تحويلهم شهداء». ومن أوروبا خطّط كركر لانقلاب، كما تشكّلت مجموعة أمنيّة للتنفيذ، لكنّ المحاولة انكشفت فيما كان بن علي يخطّط لانقلابه الذي نُفّذ أواخر 1987. وفي نقده ترهّل البورقيبيّة وتعثّرها، وتجنّباً لتراجع شعبيّته، دشّن بن علي فترة انفتاح طاولت الأحزاب والإعلام والجامعة، كما أطلق سراح المساجين السياسيّين، وقدّم تنازلات للعروبة والإسلام والصلاة والأزهر، مغيّراً اسم الحزب إلى «التجمّع الدستوريّ الديموقراطيّ». ولاقاه «الاتّجاه» فسمّى نفسه «حركة النهضة» انتماء إلى التقليد الذي ابتدأ بخير الدين. وتقدّمت «النهضة» بطلب للترخيص بعدما حذفت من وثائقها كلّ إشارة سلبيّة إلى الغرب. وبقبولها التعدّديّة التي تشمل أقصى اليسار، برهن قادتها كم ابتعدوا عن الأصول الإخوانيّة المصريّة. لكنّ إعلان بن علي عن انتخابات في 1989 ترافق مع انشطار رأي «النهضة» بين الغنّوشي وصدّوق شورو، المقرّب من كركر والذي أراد، على عكس الغنّوشي، تحويل الانتخابات معركة استفزاز وتحدٍّ. هكذا جاء إحراز «النهضة» كتلة نيابيّة كبرى ليخيف بن علي، الذي «انتُخب» بـ 99 في المئة، فانتهى شهر العسل وابتدأ قمع من عيار أسديّ وصدّاميّ. وإذ تجذّرت مواقف الغنّوشي السياسيّة والدينيّة، وقد انتقل إلى أوروبا، ضاعف صعود «جبهة الإنقاذ» الجزائريّة خوف النظام وتصلّبه. وبالفعل انفجرت أعمال عنف وإرهاب، بعضها نفّذها «نهضويّون» وبعضها أُلصق بهم، كما جرت محاولة لاغتيال بن علي بصاروخ يُسقط طائرته. واعتراضاً على وجهة العنف المتنامي انشقّ مورو في 1991.   المحنة اختفت «النهضة» من المشهد العامّ في تونس. هناك من وجد منفاه في أوروبا فيما كان بن علي يتجاوز بورقيبة بأشواط، حيث عُدّت تونس في 2005 البلد الرابع عالميّاً في نسبة المساجين إلى السكّان. وفضلاً عن سائر أعمال التعذيب الجسديّ القصوى، مورست الساديّة والاغتصابات على أوسع نطاق، وحُرم أبناء المعتقلين من التعليم. وفي لندن نشأت قيادة على رأسها الغنّوشي، تقابلها قيادة في الداخل على رأسها شورو. ولئن أمكن، في 1992، عقد مؤتمر في ألمانيا، كان على «النهضة» أن تواجه مشكلات اجتماعيّة وأُسَريّة ونفسيّة نجمت عن السجون والتعذيب والتكيّف مع بلدان المنفى، فضلاً عن تدبير مساعدات للعالقين في الداخل وعائلاتهم. وبدورها تواصلت جهود بن علي مع الدول الغربيّة لطردهم أو إرجاعهم، قابلها تطوير «النهضة» علاقات مثمرة بمنظمّات حقوق الإنسان، واشتغالها على بناء إعلام مواز كـ «الفجر» في لندن، و «الإنسان» في باريس. لكنْ هنا أيضاً كان لتعدّد المنافي والمنابر أن زاد مصاعب الانسجام. وكان الأهمّ قناة «الزيتونة» التلفزيونيّة في 1999 والتي استفادت من ظاهرة الصحون اللاقطة في المدن التونسيّة، فحاولوا عبرها، بين أهداف أخرى، ردم الفجوة المتعاظمة مع نهضويّي الداخل. لكنّ الأجواء التي نجمت عن 11/9 جعلت مهمّاتهم في الغرب أصعب، كما أحدثت انفراجاً دوليّاً من حول بن علي، علماً بتردّي علاقاته مع شرائح متعاظمة في تونس. ولم يتوقّف صراع القيادتين: الغنّوشي في لندن وكركر في باريس. فمقابل تدرّجيّة الأوّل واستشعاره أهميّة كسب الغرب ومنظّمات حقوق الإنسان، تمسّك الثاني بالعنف القُطبيّ وطوّر علاقات مع جهاديّين في فرنسا، حيث وُضع تحت الإقامة الجبريّة، وانتهى الأمر بتجميد عضويّته في «النهضة». وفي مؤتمره في 1995، اعتمد التنظيم مبدأ اللاعنف، لكنْ وسط احتجاجات واسعة من القاعدة، ومع التذكير بكتابات أبكر للغنّوشي، لا سيّما في حرب العراق، 1990-1991، وحرب الجزائر الأهليّة، حين بالغ في امتداح صدّام و «جبهة الإنقاذ» قبل أن يفصل نفسه عن الاثنين. ومضى الغنّوشي يطوّر موقفاً عن «الديموقراطيّة الإسلاميّة»، كما رطّب موقفه من الأحوال الشخصيّة، حتّى شُبّه بشيوعيّي أوروبا الذين تراجعوا إلى الإشتراكيّة الديموقراطيّة بعد سقوط الاتّحاد السوفياتيّ.   اليأس ... على مدى التسعينات أجريت انتخابات شكليّة عدّة راكمت السلطات في يد بن علي، مع استكمال تدجين جماعات حقوق الإنسان والنقابات. هكذا بدأ يتبلور تحالف لطلب الديموقراطيّة والتغيير بين علمانيّين معارضين و «النهضة». إلاّ أنّ النظام، الذي استكمل تأميمه السياسة وتصفيته الخصوم، كان يتبدّى قويّاً بما يبعث على يأس خصومه، فظهرت على بعض «النهضويّين» رغبة في التوصّل إلى تسوية معه تتيح لهم العودة. وهذا إنّما أتاح للنظام، عبر سياسة «الحلول الفرديّة»، ترميم زعمه الديموقراطيّ والإمعان في شقّ المعارضة. فحتّى الغنّوشي المطالب بحلّ جماعيّ، بات مستعدّاً لمرحلة انتقاليّة «على الطريقة المغربيّة». وبالفعل ضمرت «النهضة» حتّى كادت تقتصر على الغنّوشي ومريديه ممّن صاروا هم أيضاً يتحدّثون عن «المصالحة»، حتّى تراءى لبن علي أنّ «خطرها» تراجع فيما تقدّم خطر السلفيّين. ولئن أطلق سراح قادة «نهضويّين» كما أتيحت لمنفيّين العودة، بدأ السلفيّون يستقطبون شبّاناً أشدّ تطرّفاً واندفاعاً. لقد باشر بن علي، في العقد الذي سبق سقوطه، تنازلات للرموز والممارسات الدينيّة، ففي 2003 مثلاً بنى مسجداً بالغ الفخامة سمّاه باسمه في قرطاجة، وفي 2007 أوجد أوّل محطّة إذاعيّة دينيّة هي راديو الزيتونة. لكنّه ضاعف إحكام قبضته على المشايخ وخطبهم ومؤسّساتهم وشدّد حربه على الحجاب. في المقابل، تزايد التحجّب في المدن والأرياف، وتعاظم طلاّب الزيتونة وحضور المدارس القرآنيّة. ومع احتفال تونس في 2006 بخمسين سنة على استقلالها، لوحظ إفلاس النظام الذي لم يتبقّ منه غير الفساد والأزمة الاقتصاديّة والحكم البوليسيّ، فحين جاءت انتخابات 2009 نال بن علي نسبة 90 في المئة! وإلى تزايد العداء للنظام بسبب برودته في 2003، إبّان حرب العراق، انضاف الإنترنت إلى الصحون اللاقطة، فبات 17 في المئة من السكّان يستخدمونه في 2007، وعبره يتعرّفون إلى الإسلام وسياساته، وكذلك إلى سائر العالم.   الثورة ... بدأت إعادة بناء التنظيم مصحوبة بإثارة انتباه المنظّمات غير الحكوميّة لأعمال بن علي، والمشاركة في التحرّكات المطلبيّة. لكنْ بدا مطلوباً «مقاومة الخوف» والتردّد حيال السياسة، ومعالجة الانهيار الاقتصاديّ الذي أصاب بيئة المساجين، وإحياء نشاطيّة الجامعة. وفي غضون ذلك، استمرّ السلفيّون، على كثرة تنظيماتهم، في النموّ. معظمهم انشقّوا عن «النهضة» وجذّرهم عنف السلطة وتعطّل النقاش العامّ. وكان لعنفهم أن وفّر لـ «النهضة» فرصة البرهنة على «اعتدالـ «ـها»، فيما كانت الطفرة التلفزيونيّة العربيّة، منذ التسعينات، تمعن في كسر احتكار السلطة للأخبار. فحين انفجرت الثورة، ثمّ فرّ بن علي في 14/1/2011، اكتمل موت نظام كان، على مدى عقد، يموت بالتدريج. وفوجئ «النهضويّون» بالثورة، وقرّروا الحدّ من ظهورهم كي لا يقسموا جمهورها، والبعض كان لا يزال يتخوّف من عودة بن علي. وعلى رغم دورهم البالغ المحدوديّة، ظهر عشرة آلاف في استقبال الغنّوشي العائد من لندن في 30/6. هكذا انطلقوا في تزخيم الاستقطاب وتنظيم التوسّع فأنشأوا في ستّة أسابيع 2064 مكتباً. وإذ باشرت القيادة إخماد رغبة الثأر عند قاعدتها، راحت مهرجاناتهم تتلوّن، فتحضر الموسيقى في أحدها، ونساء غير محجّبات في آخر، وبدا تمدّدها الجغرافيّ نقطة قوّة على الأحزاب العلمانيّة المحصورة في الساحل. وفي انتخابات 23/10 نالت 37 في المئة من الأصوات، بينما جمعت الأحزاب الثمانية التي تلتها 35 في المئة، ما جعلها القوّة الأولى بلا منازع. لكنْ بإنشاء «الترويكا» الحاكمة، مع حزبين علمانيّين صغيرين، احتكرت «النهضة» المناصب الوازنة، ما عزّز قلّة الثقة بنياتها. وإذ ذلّلت «الترويكا» بصعوبة أزماتها الداخليّة، لم ينته عهدها إلاّ وقد تشقّق الشريكان العلمانيّان الصغيران. لكنْ داخل «النهضة» نفسها، علت الاحتجاجات على تسمية رفيق عبدالسلام، صهر الغنّوشي، وزيراً للخارجيّة، كما انتُقدت صلاحيّات الغنّوشي الحزبيّة، وحياة مَن كانوا منفيّين قياساً بمن لم يغادروا. وفي صيف 2012 انعقد مؤتمر لترتيب الأمور ففتح الباب لعودة من تركوا «النهضة» ومن فصلتهم. وإذ عاد مورو، توفّي كركر بجلطة دماغيّة. لكنّ انتخابات الشورى أعطت المتصلّب شورو الأكثريّة وإن جدّدت الرئاسة للغنّوشي. مع هذا، أطلّ قادة جدد نقلوا ما عاينوه في إقامتهم الغربيّة إلى تنظيمهم، بقصد دمقرطته.   مهمّات راهنة في البرلمان، احتلّ نقاش الشريعة موقعاً بارزاً. وضدّاً على رأي أكثريّة «نهضويّة»، اعتبر الغنّوشي أنّ طرح المسألة يشقّ قوى الثورة وسابق لأوانه. ثمّ قرّرت «النهضة» ألاّ ينصّ الدستور على الشريعة، مع أنّ شورو والمتشدّدين تظاهروا وغادر 10 في المئة من شبّان التنظيم، اتّجه بعضهم إلى السلفيّين. على أنّ الدستور الذي صدر مطالع 2014 ضمن «حماية المقدّس» ومنع الإساءة إليه. وكانت حقوق النساء أيضاً موضع تداول حارّ، ولوحظ أنّ «النهضة» باتت تضمّ قياديّات معظمهنّ زوجات معتقلين سابقين. وبتأثير الغنّوشي، قدّم التنظيم تنازلات في الأحوال الشخصيّة، لم يستطع تقديمها في موضوع حرّيّة التعبير، خصوصاً في المجالات الفنّيّة. بيد أنّ مزايدات السلفيّين راحت تحرج «النهضويّين»، وصار مشهدهم ومشهد النساء المنقّبات مرئيّاً أكثر. «أنصار الشريعة»، أكبر تنظيماتهم، حضر بقوّة ممتدحاً الجهاديّين وبن لادن، ومسيطراً على مساجد ومنصّات تعليم. وما بين اعتداءات على الطلبة وهجوم على السفارة الأميركيّة، ثمّ مباشرة «الجهاد» في منطقة الشعانبي، على الحدود مع الجزائر، مضى «الأنصار» يستقطبون شبّاناً عاطلين من العمل ينتجهم بتوسّع أداء اقتصاديّ راكد. وبفعل سيولة الحدود مع ليبيا، تمدّد «الجهاد» إلى الخارج، وفي أواسط 2015 كان في سوريّة 4000 تونسيّ ونصفهم في بلدان أخرى، مرتبطين بـ «القاعدة» و «داعش». هكذا قطعت «النهضة» كلّ «حوار» مع السلفيّين، وعدّ الغنّوشي كلّ من يمارسون العنف «إرهابيّين». وكان اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي في 2013 قد أسقط «الترويكا» وتكاثرت الاتّهامات لـ «النهضة» من العلمانيّين الغلاة. وإذ حلّ «النهضويّ» علي العريّض في رئاسة الحكومة، بعد استقالة «النهضويّ» حمادي الجبالي، انفجرت علاقة «النهضة» بالسلفيّين الذين كانوا يعدّون لاغتيال قياديّين منهم، ومن سواهم. لكنْ في صيف 2012 نشأ «نداء تونس»، جامعاً أطرافاً علمانيّة قليلة التجانس، بعضها كان على صلة بالعهد السابق، فيما تردّد أنّ «النهضة» نفسها ضالعة في مشروع «مصالحة وطنيّة» لا تستثني بن علي، وهو ما عارضته بشدّة بيئتها السياسيّة. على أيّة حال، فإسقاط مرسي في مصر قوّى «النداء»، علماً بانتقاد الغنّوشي لمرسي، ثمّ تجميد علاقاته بعموم الأطراف الإخوانيّة التي بدا بُعيد الثورة أنّه يوثّق العلاقة بها. وفي موازاة هذه التَوْنَسَة المتزايدة، انعقد «حوار وطنيّ» عريض استقالت بموجبه الحكومة وأُقرّت خريطة طريق مجمع عليها إلى المستقبل. وفي أواخر 2014 أجريت انتخابات عامّة حلّت فيها «النهضة» في الموقع الثاني بعد «النداء»، لكنّها فضّلت المشاركة الشكليّة على المعارضة. كذلك أعلن الغنّوشي أنّ معركة الهويّة حُسمت وينبغي الانتقال إلى التحدّيات الاقتصاديّة والأمنيّة، أي إلى «ما بعد الإسلام السياسيّ»، فيما صارت «النهضة» تؤكّد شبَهها بالديموقراطيّة المسيحيّة في أوروبا، علماً أنّ الأخيرة نشأت في ظلّ تراجع الممارسة الدينيّة، وهو ليس حال تونس إطلاقاً. وفي النهاية يبقى راشد الغنّوشي بطل هذه الرواية، في حماساته الإيديولوجيّة ثمّ في تراجعاته البراغماتيّة. وأغلب الظنّ أنّه ضمانة لتونس ولتطوّرها اللذين يحتاجان بالطبع إلى ضمانات أكثر، ضماناتٍ ليس مؤكّداً أنّ البيئة الإسلاميّة، في ظلّ عدم الإقلاع الاقتصاديّ، ستقوى على توفيرها.

مشاركة :