الصحف العربية تبدو كمن يسير وهو نائم من أجل تمرير خطاب الحكومات، مع أنها تدرك وهي مستيقظة أنها ستسير نائمة في طريق الكارثة.العرب كرم نعمة [نُشر في 2017/09/23، العدد: 10760، ص(18)] الصحافة لا تعرف الأصدقاء. ذلك مبدأ مثالي تطمح له المدوّنة الصحافية، لكن على مر التاريخ الصحافي لم تنج صحيفة من تقديم تنازلات سواء كانت مضطرة لها أم تحت وطأة الحاجة الماسة للحفاظ على وجودها. إن تكون الصحافة معنية بكسب المزيد من الأصدقاء، هذا يعني بالضرورة التخلي عن مهامها في ربط المجتمع بديمقراطية حرة قادرة على محاسبة الحكومات. لسوء حظ الصحف عبر تاريخها أن معاركها مع الحكومات كانت تنتهي في الغالب لصالح القوة وسطوة المال، لذلك أبقى لنا التاريخ الصحافي مساحات مضيئة على قلتها عن صحف استطاعت فضح الحكومات وعرّت لصوص السلطة، وأرغمت بعضهم على الاستقالة. فالصحافة غير معنية بكسب المزيد من الأصدقاء، لكنها في الوقت نفسه لا تهدف إلى صنع الأعداء، مهمتها المفترضة تسمو فوق ذلك في اختيار المجتمعات لخطابها وتنظيم أنفسها في ديمقراطية جديدة من الأفكار والمعلومات، وتغيير مفاهيم السلطة، وإطلاق الإبداع الفردي، ومقاومة خنق حرية التعبير. مثل هذا الأمر يأخذ صورة مخيّبة في التاريخ الصحافي العربي، فالصحف العربية تبدو كمن يسير وهو نائم من أجل تمرير خطاب الحكومات، مع أنها تدرك وهي مستيقظة أنها ستسير نائمة في طريق الكارثة، التملّق يخلق حالة أوسع من انعدام الثقة، وعندها لن يكون للصحيفة أي دور، ستبقى مجرد أوراق تذروها الرياح وفق تعبير كافكا. الصحيفة لم توجد من أجل أن تكون مجرد ورقة يتجاهلها الناس، ستكون كذلك عندما لا تعبأ بالمجتمع ويكون طموحها جمع المزيد من الأصدقاء من الحكومة ومن رجال الأعمال وممن يستحوذون على المال والسلطة. يستعين الكاتب ديفيد اغناتيوس بجملة كان روبرت كايسر، المحرر في صحيفة واشنطن بوست قد أطلقها، من أجل تعريف علاقة الصحيفة بالقراء، بالقول إن “القراء يستحقون لقطة واحدة وواضحة على الحقائق” حتى يتمكنوا من تحديد من هم الرجال الصالحون ومن هم الأشرار. ولكن اغناتيوس المشغول بمصير العالم في مقالاته، يعتذر من نفسه ومن زملائه الصحافيين بالقول “حتى في أفضل أيامنا، فإننا لا نفي دائما بهذا الاختبار العسير”. ليس لأن مفهوم الحقائق مهمة عسيرة على الصحافيين! بل لأن العين الصحافية تنظر للحقائق وفق العدسة التي ترتديها، كسب المزيد من الأصدقاء بالنسبة للصحف يتطلب المزيد من العدسات، بينما حقيقة معرفة الصالحين والأشرار لا تحتاج أكثر من عدسة واحدة. لست متشائما، كما لست بطرا في مطالبة صحافتنا العربية بأكثر مما متاح لها من سلطة واهنة، لكن ثمة شواهد أمامنا فيها مفهوم التملق الليبرالي بأقصى درجات انعدام الثقة في الصحافة. الأزمة القطرية المتصاعدة كشفت لدينا نوعا من صحافة “التملق الليبرالي” الموغل في السطحية، وبات منعكسا في طريقة تناول الصحف الأميركية والبريطانية لتداعيات هذه الأزمة، فاغلب ما كتب فيها يجسد بامتياز البحث عن المزيد من الأصدقاء، بغض النظر عن لقطة الحقيقة التي اقترحها روبرت كايسر. في ظل حرب المعلومات العالمية كيف تنتصر الحقيقة في الصحافة، يتساءل ريتشارد ستينغل مدير تحرير مجلة تايم السابق والوكيل الحالي في وزارة الخارجية الأميركية “نحبذ فكرة أن الحقيقة عليها دوما أن تخوض النزال في سوق تجارة الأفكار، لكنها اليوم باتت تخسر، وليس كما كان في السابق”. الصحافة لا تريد أن تكون “مكرا شيطانيا” كما يسميها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مثلما لا يرغب القراء بان تكون الحكومات من يغطي الصحف في مهمة معكوسة من أجل منعها عن التحرك لمتابعة هموم الناس وتقويض مهامها. عندما ارتفع الحلم السياسي لجيرهارد شرودر من أجل ان يكون المستشار الألماني، قال “أنا بحاجة إلى صحيفة بيلد يوم الأحد من أجل أن أتولى الحكم” ولم تقل الصحيفة الأكثر تداولا في ألمانيا، أنها بحاجة إلى شرودر لتبقى أكثر تداولا. صحيح أن الصحف لا تستطيع كشف مواضع الفساد والتزوير ونهب المال العام، إن لم تكن قوية ماليا ورابحة تجاريا. لكنها ستفقد البوصلة تماما عندما تختصر مهامها بمجرد جمع المزيد من الأصدقاء داخل الحكومات وخارجها. مثل هذا الأمر سبق وأن حذرت منه كاثرين فاينر، رئيسة تحرير صحيفة الغارديان، لإيقاف انتشار النهج الملتبس حول مفهوم الحقيقة، لأنه يوحي بأننا كصحافيين في خضم تغيير جوهري في قيم الصحافة وتحوّلها إلى مصدر تجاري استهلاكي، بدلا من تعزيز الروابط الاجتماعية والديمقراطية، والارتقاء بوعي الجمهور، والحدّ من الفساد السياسي. الحكومات تريد أن تنتقم من الصحف عبر إذلالها وإخضاعها، لإنهاء ما تبقى من الثقة التي يوليها القراء بالصحف، ومثل هذا الأمر لا يحدث إلا عندما يكون هدف الصحف البحث عن المزيد من الأصدقاء بدلا من كشف الحقائق للجمهور. عندما أطلق البرلماني البريطاني إدموند بيرك بعد 85 عاما من إصدار أول صحيفة في فليت ستريت، صيحته المدوية عن السلطة الرابعة، كان التاريخ في أوج يقظته، إلى درجة أنه لم ينم بعدها كلما تعلق الأمر بمس هذه السلطة “إنها السلطة الرابعة”، كانت صرخة بيرك عام 1787 تشير إلى منصة الصحافيين في البرلمان البريطاني. اليوم للأسف، الصحف نفسها تفرط بهذه السلطة من أجل المزيد من مهادنة ما يسمى “الأصدقاء”. كاتب عراقي مقيم في لندنكرم نعمة
مشاركة :