الفكر الديني والاجتهاد في الأصول

  • 8/14/2014
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

قرأت عدة كتابات وأبحاث لمجموعة من الدعاة ورجال الدين حول الرد على أفكار وشبهات وفتاوى المنظمات والجماعات المتطرفة والإرهابية، ولاحظت أن مجمل هذه الكتابات لا تخلو من أمرين، الأول: الاكتفاء بتجريم وتحريم التطرف والغلو بشكل عام، دون الخوض في التفاصيل والاكتفاء بالقول: "إن التطرف والغلو إنما نشأ نتيجة نَظَرٍ منحرف في الدليل الشرعي". والثاني: الخوض في التفاصيل في الرد على شبهات المتطرفين، ويبدو أن القاعدة العقلانية في مثل هذه الردود، ضعيفة ومهزوزة في الكثير من الموارد، وأغلب الآراء المطروحة تفتقد إلى المبررات العقلانية ولا تؤدي إلى الهدف المطلوب المتمثل في تفكيك الفكر المتطرف وإضعافه. فعلى سبيل المثال، يقول أحد الدعاة في الرد على شبهات المتعاطفين مع الجماعة الإرهابية "داعش" فيما يتعلق بوصف "الدواعش" بأنهم من أهل التوحيد والموحدين، فكيف يقاتلونهم؟ ما نصه: "يدندنون حول هذا الوصف ليزكوا به أنفسهم ويثلبوا به الآخرين، وهذا والله من مكر الشيطان بهم.. فكل البدع تجد أهلها قد اختاروا لأنفسهم أحسن وأفضل الأسماء، فالرافضة: شيعة أهل البيت، والخوارج: الشُراة – يعني (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم)، والمعتزلة: أهل العدل والتوحيد، بل حتى الباطنية: أهل الحقائق والتوحيد، فهل أغنت عنهم تلك الأسماء شيئاً؟! وهل غيرت من حقيقة (بدعتهم) وضلالهم؟!" الرأي السابق للأسف، يعمل على تكريس التعصب والتعامل مع أتباع الفرق والمذاهب الأخرى من موقع الكراهية والخصومة، ويعتبر ذلك من أهم القواعد التي تستند عليها الجماعات الإرهابية في تبرير قتل الأبرياء والمدنيين، بحجة أنهم من أهل البدع والضلال، وبالتالي فإن مثل هذه الردود قد تعطي لهذه الجماعات تأييداً أكثر من قبل الجهلاء من الناس، ومن هذا المنطلق فإن الفقه السياسي في مثل هذه الموارد خرج عن دائرة العقلانية. كان الأجدر في مناقشة مثل هذ المواضيع، هو نقد وتنقيح التراث الديني، والعمل على تكريس التعددية على مستوى الأديان والمذاهب والطوائف والثقافات والأفكار والنظريات، فقد درجت العديد من المجتمعات الإسلامية في وقتنا الحاضر على الانفراد برؤية معينة في مجال الدين أو الأخلاق في تنظيم أمور المجتمع؛ بحيث يتخذ كل مذهب أو طائفة أيديولوجية معينة ويلتزم بقيم دينية يحاول فرضها على الجميع في مقابل تعدد المذاهب والمعتقدات والأفكار، وهنا ينشأ تكفير الآخر واستباحة قتله وهذا ما تفعله "داعش" و"القاعدة" وغيرهما من الجماعات الإرهابية المجرمة. لقد تحدثت في مقالات سابقة عن صمت علماء المسلمين عن الأفكار المتطرفة والإرهابية، ولا أقصد بذلك صمتهم عن إدانة هذه الجرائم، ولكن في عدم الخوض في نقد التراث الذي تستند عليه هذه الجماعات، فالبعض من الدعاة ورجال الدين يقول إن الليبراليين والعلمانيين يستثمرون الأجواء الملبدة بآثار الإرهاب والتفجير في تمرير الأفكار والاتجاهات المنحرفة، ومحاربة أحكام الشريعة وتشويه حملة رايتها! وهنا أتساءل بكل صراحة: ما رأي علماء المسلمين فيما تفعله "داعش" من قتل وتشريد للطوائف والمذاهب في العراق من منطلق "دفع الجزية" أو أنهم من "أهل البدع والضلال"؟ أليس هؤلاء ينطلقون من مفاهيم مثل الشرك والكفر في قتل الآخرين؟ كيف نفهم الإيمان وكيف نفهم التوحيد وكيف نفهم الشرك والكفر؟ ما رأي علماء المسلمين في مسألة "الخلافة الإسلامية" التي يتشدق بها أمثال هؤلاء ويدغدغون بها مشاعر المسلمين؟ وماذا عن المجتمع المدني الذي ينادي به الإسلام؟ ماذا عن ممارسات داعش عندما قاموا بقتل امرأة ضعيفة وبكل وحشية بحجة تطبيق "حد رجم الزانية"؟ وماذا عن خطف النساء واغتصابهن بحجة "السبي وملك اليمين"؟ لا شك أن تجاهل الإجابة عن الأسئلة السابقة لا يعني سوى تحريف الحقائق الموجودة على أرض الواقع وتجاوز حدود العدالة، فالأسئلة المذكورة تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي الذي يعيشه المسلمون في العصر الحاضر، وهناك حقيقة صادمة والبعض لا يريد أن يراها أو أن يخوض فيها، وهي أن الجماعات الإرهابية تستند على أصول الدين بحسب فهمها القاصر لتلك الأصول! وفي هذا الصدد يقول أحد الدعاة ما نصه: "خاض الليبراليون في الأحكام الشرعية، مما دفعهم للإساءة إلى الأحكام الشرعية والعبث بالمفاهيم الدينية.. فكان هذا سبباً لنسف الحكم الشرعي تماماً وتغيير شعائر الله بالكلية"! ومشكلة هذا الداعية وغيره أنهم يتصورون أن النص الديني لا يملك إلا تفسيراً حصرياً وحيداً، متجاهلين في ذلك أن هناك ثمة قراءات وتفاسير مختلفة ومتفاوتة لجميع النصوص الدينية. فعندما نطالب بضرورة الاجتهاد في الأصول بما يتناسب مع مقتضيات العصر الحديث، فإن ذلك يعني إعادة النظر في التفاسير لهذه الأصول ونقدها وتنقيحها، ويقول بعض رجال الدين: "لا ينبغي نقد أصل الدين لأنه أمر إلهي وغيبي ووحياني، وفوق مستوى العقل البشري، مضافا إلى أن نقد الدين سيؤدي إلى اهتزاز إيمان الناس وفتح الباب على الإلحاد والعبثية واللاأدرية وسيكون كل شيء مباحاً"، وهذا هو السبب الرئيس في صمت العلماء في الرد على شبهات الجماعات الإرهابية للأسف الشديد. إن غربلة ونقد التفسيرات القديمة للنصوص الدينية لا يقصد بها محاولة هدم الإسلام، كما يتصور ذلك رجال الدين، بل المقصود من ذلك الكشف عن الإيجابيات والسلبيات في تلك التفسيرات والتي هي عبارة عن مناهج بشرية معرضة للصواب والخطأ، ومن هنا نستطيع إضعاف فكر الجماعات الإرهابية التي تستغل تفسيرات الدين القديمة في هدم جوهر الدين والتدين في جو المجتمعات الإسلامية. فالمجتمعات الإسلامية متدينة، ويكون فيها الدين هو المعيار للتحكيم والنظرة إلى الواقع ومستجداته، لذا ينبغي على علماء الإسلام أن يستثمروا اعتقاد الناس بالدين في مواجهة الإرهاب والتطرف وإقامة العدالة ورعاية الحقوق الأساسية لأفراد المجتمع واستثمار الخطاب الديني كدعامة أخلاقية ومعنوية للمجتمع ككل.

مشاركة :