سراديب أوسلو على خشبة لندنية بقلم: هالة صلاح الدين

  • 9/24/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

مسرحية تتأرجح بين التأريخ البراغماتي ودراما الانتهاك السياسي، متوقعة انهيار السلام الهشّ في استدعاء واعٍ للوضع المتأزم الحالي. العرب هالة صلاح الدين [نُشر في 2017/09/24، العدد: 10761، ص(15)]كيف أصبحت اتفاقية أوسلو ممزقة "اكتشِف القصة المذهلة لأناس خاطروا بكل شيء من أجل السلام. هل بوسعنا أن نصنع السلام مع العدو؟ أوسلو تهبنا الأمل!"، هكذا يتلو علينا المقطع الدعائي لمسرحية “أوسلو” المعروضة حالياً على المسرح القومي بلندن من تأليف الكاتب الأميركي جيه تي روجرز وإخراج الأميركي بارتليت شير. وقد حصدت عدة جوائز من بينها جائزة “توني” الأميركية وجائزة “دراما ديسك” وجائزة “لوسيل لورتيل” وجائزة “حلقة نقاد الدراما بنيويورك”.يمنحنا النص أنفاساً جديدة لا تعوزها حكمة المعرفة المستقبلية لما ستسفر عنه المبادرة الأسكندنافية من مواجع للشعب الفلسطيني وكاسب وحيد نال الحق في الوجود بسلام وأمن بدون أي مقابل يذكر إلى أيّ مدى ستَذهب بك جهودك لإحلال السلام مع عدوّ يتلوّن كالحرباء؟ هل تضع يدك بيد عدوّك اللدود على أرض أجنبية لتحدد مصير شعب ذاق عقوداً من أهوال يشيب لها الولدان؟ توحي المسرحية بأن ياسر عرفات تورّط في اتفاقية أوسلو تحت أثر المَثل العربي “الزن في الأذن أمَرّ من السّحر” ما بين خطوتين نحو التصالح تَعْقبهما خطوةٌ تتقهقر إلى المواجهات المشحونة، وأخيراً الانفراجة المخطط لها بدقة ودهاء. في غضون تسعة أشهر من المفاوضات المضنية بين دولة فلسطين ومثَّلتها منظمة التحرير الفلسطينية والمحتل الإسرائيلي ندلف إلى سراديب مستترة أبرمت اتفاقية أوسلو التي فُجع فيها العرب أجمعين في العام 1993. ولكنك لو نصَّبت الحقيقة العارية على المسرح لن تتحول إلى تاريخ أو واقع وستظل خيالاً دون شبهة حَرْفية. وقد كان في هذه الدراما من المفاوضات المحفوفة بالشكوك من الإعمال والتلفيق ما أخرج لنا قصة ربما نجدها اليوم أقرب إلى الخيال العلمي لِما آل إليه الحق الفلسطيني من إهدار وانشقَّت هوة الخلافات العرقية والدينية بين الخصمين المتنازعين. ولأن مؤلف المسرحية يشدّد على أنّ علينا ترك التاريخ للمؤرخين على تعقد حجج المسرحية الدبلوماسية والقانونية، لا يخشى الاتهام بتزييف التاريخ أو خيانة قضية الأنسنة. لا يلعب لعبة “الفن للفن فحسب” لاعتقاده أن الشعار يتجاهل كوننا بشراً تتلاطم من حولنا أمواج سياسية وثقافية واقتصادية عاتية تُبَاد على أثرها شعوب وتتشرد أرواح. لم يكن العرب هم من جمعوا بين ياسر عرفات وإسحق رابين في قلعة نائية بغابة على حدود مدينة أوسلو النرويجية، وإنما اثنان من الدبلوماسيين النرويجيين: مونا يول وتتقمص دورها ليديا ليونارد وتيري لارسن ويلعب دوره توبي ستيفينز. كانا سمساريْ الصفقة اللذين دبَّرا تلك اللحظة التاريخية سالكين “طريق بيزنطي” إلى السلام في الشرق الأوسط كما أسمته جريدة نيويورك تايمز.رابح واحد في اتفاق الخصمين بأوسلو تروي المسرحية كيف هَنْدس الاثنان فكرة مجنونة بدعوة القائدين إلى النرويج دون إطلاع شعبيهما، ودون أن يتزحزح كلاهما عن القدس كعاصمة لبلديهما، بغاية “إيجاد وسيلة لإيجاد الطريق”. يرسمهما المؤلف وكأنما يجيئان ليعقدا حفلاً عائلياً يموِّه الفرق بين الحلفاء والأعداء، في بيئة تنفتح على جميع الاحتمالات، ثم يصنعان قنبلة موقوتة بيد مرتعشة تفضي إلى سلام أعرج في منطقة ملبّدة بالكراهية. وانطلاقاً من دهاليز السياسة وألاعيبها والأغراض الإنسانية ومفرداتها المعقدة لا يُبرز روجرز بطلين همامين منزّهين عن الهوى يضحيان بكل غال من أجل السلام. فالمؤلف، وله باع طويل في العروض الجيوسياسية، لا يلعب لعبة التأليه للزوجين بل ينتهك مَن انتزع “نصراً واهياً من بين أنياب الذئب” ويشِّبههما بشخصيتيْ المسرحي البريطاني توم ستوبارد “روزينكرانتس وجيلدنستيرن ميِّتَان” في تناظر مسرحي يصمهما بالتبلّد الروحي. ملحمة السرية لعله من الواجب التنويه بأن الملحمة السرية حتّمت على روجرز تطويع أشكال دراماتورجية لها رواج واسع كأعمال الكاتب البريطاني نويل كاوارد الكوميدية بغرض إقحام مادة ميلودرامية استثنائية على خشبة مسرح ساخر، ليفرض حتمية أن الاتفاقية ما هي إلا ملهاة في استخدامه لتقنيات الكوميديا السوداء. وهذه الفلسفة تتماس بعض أطيافها مع الفلسفة الشكسبيرية التي تقحم النكت بين ثنايا التراجيديا بينما تُهشّم يول جداراً معنوياً بيننا وبينها بإشباع عطشنا للمعلومات وإعادة ذكر الأحداث التاريخية علماً بأن نزعات الشخصيات تباينت أيديولوجياً تبايناً شاسعاً ما بين أكاديمييْن يسودهما المرح من حيفا ووزير الخارجية الإسرائيلي شيمون بيريز ومحامٍ إسرائيلي متشدد وفلسطيني ماركسي وغيرهم من الشخصيات الثانوية. ويسكي السلام يبقى منوطاً بالكاتب أن يطْلعنا على منهج التدُّرج الذي ابتدعه الداهية المداهن تيري بديلاً عن نموذج “الشمولية” الراسخ في المعاهدات الدولية. يحْضر الكل في الجلسة بصفتهم الشخصية البحتة التي قد تتغاضى عن الحقوق وتتجاهل الأحكام المسبقة بفعل “ويسكي” لم تكفّ يول عن صبّه في كؤوس الجميع، لا بصفتهم الرسمية التي تحتم عليهم خدمة شعوب يمثلونها.رجل وامرأة نرويجيان هندسا في المسرحية اتفاق أوسلو وطيلة الوقت يناور الزوجان مناورات تخمينية بمعاونة يوري سافير المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية، ومعظم الحضور يتولاهم الانزعاج من مغبة الجمع بين معسكريْ النزاع. وهكذا تتوالى المسرحية على منوال أولئك المذعورين من المكيدة والزوجان يهدئان من روع الجميع بأنها ناجحة لا محالة! لعب الممثل المغربي نبيل الوهابي دور حسن عصفور، وكان سكرتيراً للجنة المفاوضات ينتمي إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني. وهو الممثل العربي الوحيد في العرض لاعتقاد المؤلف أن التباعد الجغرافي يطْلق مواهب الفنان، وكلما وضع قناعاً من التنكر العرقي والجندري كلما أجاد وأبدع. كما أدى بيتر بوليكاربو دور أحمد قريع مدير الدائرة الاقتصادية بمنظمة التحرير الذي ظهر مفعماً بالريبة في نوايا الأطراف الأخرى. حكمة المعرفة المستقبلية على مدار ساعتين وخمس وخمسين دقيقة نكاد لا نبصر فيهما القائديْن المتنازعين، يتردد هذا النص الفكري بين طموح المسرح في نقل وفرة الحياة وحقيقتها بأصدق الطرق وبين التطرق إلى الإنساني في آليات السياسة ومكائدها المضنية. يخشى المؤلف من أن ذاكرة الغرب التاريخية تحذف تفاصيل خطيرة بالممحاة. وكأنّ متفرجي المسرحية يتساءلون، “منظمة التحرير، آه. لقد نسيناها!” ويتساءل في أحد حواراته هل سيجيء اليوم الذي يهتف فيه المشاهد مندهشاً “القاعدة؟ داعش؟”. الحق أن المسرحية توقعت انهيار السلام الهشّ في استدعاء واعٍ للوضع المتأزم الحالي. ومع انشغال خيالنا بالأبعاد السياسية والاجتماعية “لمسرحية” داخل مسرحية وتحُّول الممثلين في زيّ سياسيين إلى سياسيين في زيّ ممثلين عقب أربعة وعشرين عاماً على توقيع اتفاقية ما هي إلا حبر على ورق، يمنحنا النص أنفاساً جديدة لا تعوزها حكمة المعرفة المستقبلية لما ستسفر عنه المبادرة الأسكندنافية من مواجع للشعب الفلسطيني وكاسب وحيد نال “الحق في الوجود بسلام وأمن” بدون أيّ مقابل يذكر. كاتبة من مصر

مشاركة :