التفرد بالقرار السياسي. ودفعت الخلافات الغنوشي إلى إعادة حساباته على وقع مشهد متغير داخليا تجاوزت فيه مساحة الاختلاف حدود تقاسم النفوذ والمحاصصة السياسية المبتورة والقاصرة. وأعادت تلك الخلافات الحديث حول اتساع رقعة الصراعات داخل حركة النهضة الإسلامية إلى دائرة الضوء من جديد، وجعلتها تتعمق لتأخذ مسارات متعددة تحت ضغط داخلي وحالة من التذمر تنذر بمشهد متفجر بات يتربص بها. وأنهى مجلس شورى حركة النهضة، السبت، اجتماعات دورته الـ15 التي خصصت لمناقشة التطورات السياسية في البلاد ومن بينها تأجيل الانتخابات البلدية (المحلية) ومصادقة البرلمان على قانون المصالحة الإدارية إلى جانب استعدادات الحركة للاستحقاقات القادمة وخاصة منها مناقشة مشروع الميزانية العامة للدولة. ولم يصدر بيان ختامي حول أعمال هذا الاجتماع على غير العادة، لكن مصادر مقربة من حركة النهضة كشفت أن الاجتماع سادته أجواء ساخنة اتسمت بارتفاع الأصوات المنتقدة لراشد الغنوشي وتفرده بالقرار. وأشارت إلى أن عددا من أعضاء مجلس الشورى اتهموا الغنوشي بتهميش الهياكل المنتخبة، خاصة مجلس الشورى، وبالهيمنة على المكتب التنفيذي وتوظيفه لتمرير مواقف وسياسات جدلية أضرت بصورة حركة النهضة داخليا وخارجيا. ولم ينف محمد القوماني، عضو المكتب السياسي لحركة النهضة الإسلامية، وجود “تباينات في الآراء داخل حركته ناتجة عن خلافات في وجهات النظر السياسية في علاقة بتقييم المستجدات على الساحة السياسية العامة في البلاد”. وقال القوماني، لـ“العرب”، إنه شارك في أعمال اجتماعات مجلس الشورى في دورته الـ15 وقد لاحظ أن هذه الخلافات برزت أثناء مناقشة مسألة المصادقة على قانون المصالحة الإدارية وسد الفراغ على مستوى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وتأجيل الانتخابات البلدية (المحلية). وأقر، في هذا السياق، بوجود “البعض من الانتقادات لأداء القيادة التنفيذية في تعاطيها مع تلك القضايا وبعض الملفات الأخرى”، في إشارة واضحة إلى رئيس الحركة راشد الغنوشي الذي لم يتردد البعض من القيادات التاريخية للنهضة في وصفه بـ”المتسلط” و“المتفرد بالقرارات السياسية”.نزار عمامي: ممارسات الغنوشي وتصرفه كمرشد أعلى راكما عوامل الانقسام داخل حركته ولكن القوماني أكد، في المقابل، أن أمام هذا الموقف “هناك من رأى داخل مجلس الشورى أن القيادة التنفيذية نجحت في تفكيك ألغام كثيرة أحاطت بالمشهد السياسي”. ولفت إلى أن التجربة أثبتت أن حركة النهضة قادرة على إدارة الخلافات داخلها، وبالتالي الحيلولة دون تفجرها. واستبق القيادي البارز في حركة النهضة الإسلامية عبداللطيف المكي اجتماعات مجلس شورى حركته باتهام الغنوشي بالتفرد بالقرارات السياسية. وقال، في تصريحات إذاعية، إن الملف الأساسي في الاختلاف داخل النهضة “هو طريقة القيادة بأسلوب الرئاسة وأن يكون القرار بيد شخص الرئيس فقط ذلك أن الذي يتخذ القرار في النهاية هو رئيس الحركة راشد الغنوشي”. وأوضح أن النظام الرئاسي في حركة النهضة يجعل راشد الغنوشي “متفردا بالقرار، وأن موقع الغنوشي في الحركة بوصفه الشيخ والمؤسس يزيد من حدة هذا النظام الرئاسي”. وبالتوازي مع ذلك، دعا زبير الشهودي المدير السابق لمكتب راشد الغنوشي القيادة التنفيذية ورئيس الحركة إلى تجنب” الدفع بقوة في القضايا الخلافية وإلى ضرورة مراعاة أوضاع الحركة ونسيجها”. وتعكس هذه الدعوة اعترافا ضمنيا بأن أوضاع حركة النهضة ونسيجها ليسا على ما يرام، خاصة على ضوء تزايد التقارير التي تتحدث عن تململ جدي داخل قواعد هذه الحركة لا سيما في مناطق الجنوب، يرجح أن يتطور نحو تصدع كبير قد ينتهي بانقسامات حادة. واعتبر القوماني أن الحديث عن انقسامات داخل حركة النهضة يستند إلى استنتاجات خاطئة لأن الخلافات الحالية لن ترتقي إلى الانقسام، ولكنه أكد وجود فجوة تواصل بين القيادة التنفيذية والقاعدة الحزبية والانتخابية ناتجة عن “الضبابية وعدم الارتياح إزاء البعض من القرارات والمواقف السياسية”. وعلى عكس ذلك، اعتبر النائب عن الكتلة البرلمانية للجبهة الشعبية (يسارية معارضة) نزار عمامي أن كل المعطيات تدل على أن صورة الغنوشي “اهتزت كثيرا داخل حركته وأيضا على الصعيد الوطني حتى أن مكانته بدأت تتزعزع بسبب ممارساته التي جعلته يتصرف كأنه المرشد الأعلى”. وقال عمامي، لـ“العرب”، إن الغنوشي “راكم بتلك الممارسات عوامل الانقسام داخل حركته التي تعيش على وقع صراعات حادة عمودية وأفقية جعلتها مقبلة على إعصار تنظيمي قد يعصف بتماسكها الظاهري الذي بقي مغشوشا”. وتقول الأوساط السياسية إن حركة النهضة ليست بمنأى عن العواصف التي ضربت جماعة الإخوان المسلمين، وترى في التطورات التي أحاطت باجتماع مجلس شورى النهضة دلالات سياسية هامة مُرتبطة والمعادلات التي تفرضها المتغيرات الداخلية وعناصر الارتباط الإقليمي والدولي. غير أن الخبير في الجماعات الإسلامية علية العلاني فضل عدم الانسياق وراء الاستنتاجات المتسرعة، وقال لـ“العرب” إن انتقاد الغنوشي من قبل عدد من قادة حركة النهضة ينبئ بتطورات عميقة داخل هذا التنظيم لكن تداعياتها ستظهر على المدى المتوسط والبعيد وليس القريب. وتوقع أن تتواصل الانقسامات داخل هذه الحركة في المدى القريب إلى أن تصل في نهاية المطاف إلى خروج نحو ثلثي أعضاء التنظيم وتخليهم نهائيا عن كل إرث إخواني، خلال فترة قدرها العلاني بنحو خمس سنوات.
مشاركة :