لم تَحْرِف الزيارةُ التي بدأها رئيس الجمهورية ميشال عون لباريس أمس بلقاءِ نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون الأنظار عن الأزمة الأخطر التي تُواجِه لبنان منذ إنجاز التسوية التي أنهتْ الفراغ الرئاسي نهاية أكتوبر 2016، على قاعدة تفاهماتٍ «مفتاحها» تحييد الملفات الخلافية، لا سيما الحرب السورية، وهي الأزمة التي باتت تضع مصير حكومة الرئيس سعد الحريري على المحكّ. وفيما كان عون «يعود» إلى باريس رئيساً للجمهورية بعدما كان لجأ إليها في أغسطس 1991 ترجمةً لقرار نفيه السياسي في أعقاب العملية العسكرية التي نفّذها الجيش السوري وطيرانه في أكتوبر 1990 وأزاحتْه من القصر الجمهوري (كان دخله رئيساً لحكومة عسكرية انتقالية) لاعتباره مُتَمَرِّداً على «شرعيّة الطائف»، بدتْ بيروت وكأنّها في قلْب مجموعة «أعاصير» تَشابكتْ منذرةً بالإطاحة بـ «شبكة الأمان» التي وفّرت للبنان استقرار الحدّ الأدنى بإزاء «الحرب الباردة» الداخلية كما حيال «عواصف المنطقة». وما يَجعل الأزمة التي دهمتْ لبنان تَكتسب طابعاً خطيراً أنها وضعتْ البلاد بين «فكّيْ كماشةِ» مأزق قانون سلسلة الرتب والرواتب الجديدة الذي ارتسم بعد إبطال المجلس الدستوري قانون الضرائب التي كانت معدّة لتمويلها والذي استدرج «اشتباكات» معلنة ومكتومة بين أركان السلطة، ومحاذير «المواجهة السياسية» التي أطلّتْ برأسها بين رئيس الجمهورية وفريقه، ولا سيما صهره وزير الخارجية جبران باسيل، وبين رئيس الحكومة سعد الحريري وفريقه على خلفية مواقف عون الداعمة لسلاح «حزب الله»، والأهمّ اللقاء الذي طلب باسيل عقده في نيويورك مع وزير الخارجية السوري وليد المعلّم. وإذا كانت جلسة مجلس الوزراء اليوم يفترض أن تَرسم مساراً حاسماً لخيار دفع الرواتب نهاية الشهر الجاري إما وفق الزيادات التي انطوى عليها «قانون السلسلة» وإما على قاعدة الجداول القديمة بانتظار توفير بدائل ضريبية تمويلية خلال شهر، فإن المؤشرات السياسية التي سبقتْ هذه الجلسة ناهيك عن الاستنفار النقابي غير المسبوق الذي تجلّى في بدء إضراب عام شامل أمس تم تمديده الى اليوم فيما أُعلن مفتوحاً (في المؤسسات العامة) تمسكاً بصرف الزيادات فوراً، يشي بأن هذا الملف تحوّل «حلبة ملاكمة» بين أطراف عدة، لا سيما بين عون ورئيس البرلمان نبيه بري الذي يشتمّ فعلاً «غير مَلائكي» بقرار «الدستوري» ربْط أي فرْض للضرائب من البرلمان بإقرار الموازنة العامة بحيث يكون من ضمنها، وهو ما اعتُبر مساساً بصلاحيات مجلس النواب مع غمْزٍ من قناة ارتباطاتٍ له بما كان أصرّ عليه رئيس الجمهورية لجهة عدم الفصل بين سلسلة الرتب والموازنة. علماً أن بعض المصادر ربَط الضغط المتدحرج في الشارع، الذي يصبّ قسم كبير من نقاباته عند بري، بالمناخ «المكهْرب» بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان الذي ألمح إلى هذا المناخ بقوله «إن من يحق له تشريع النفقات يحق له دائماً تشريع الواردات والضرائب داخل الموازنة أو خارجها»، مذكراً بأن البرلمان «هو الذي يسنّ القيود دستورياً وليس من يُسن عليه القيود، إلا إذا أصبحت مخالفة الدستور قضية فيها نظر، فحكم المجلس الدستوري لم تأتِ به الملائكة». وفيما كان بارزاً ما يشبه رمي «كرة نار» السلسلة بين يديْ الحريري مع «تحييد» رئيس الجمهورية نفسه عن ترؤس جلسة الحكومة أول من أمس وترْك رسْم المخارج العملية المُمكنة لرئيس الوزراء، تخشى أوساط سياسية من الإمعان بمحاصرة رئيس الحكومة وإحراجه، هو الذي أعطى إشارة امتعاض واضحة بكلام وزير الداخلية نهاد المشنوق العالي النبرة الذي بلغ حد وصف لقاء باسيل - المعلّم بأنه «اعتداء على مقام رئاسة الحكومة لن يمرّ وسنواجهه بكل الوسائل» ومخالِفٌ لمرتكزات التسوية السياسية. وإذ تتحدّث بعض المصادر عن أن خيار استقالة الحريري طُرح في الكواليس وهو على الطاولة في مواجهة ملامح «الانقلاب» على ثوابت التسوية، فإن دوائر أخرى تستبعد وصول الأمور إلى هذه النقطة في ظلّ غياب البدائل لدى رئيس الحكومة الموضوع بين مطرقة البقاء «المُكْلف» شعبياً في الحكومة وبين سندان الخروج غير المحسوب، معتبرةً أن «رفْع البطاقة الصفراء» عبر التلويح بورقة الاستقالة قد يكون في سياق توجيه رسالة إنذار بإزاء ملامح جرّ لبنان إلى تطبيع سريع مع النظام السوري من بوابة ملف النازحين، من دون أن تُسقِط ان «قطار التطبيع» بانطلاقه بـ «غطاءٍ» غير مسبوق من رئيس الجمهورية ولاعتباراتٍ تدخل فيها أيضاً عوامل الانتخابات النيابية المقبلة، يمكن ان يجعل كل الخيارات مفتوحة في لحظة معيّنة. وغداة ردّ باسيل على المشنوق من لاس فيغاس معلناً ان «من يعتدي على مصلحة لبنان هو مَن يرفض اخراج النازحين من أرضه، ونحن لن نقوم بأي عمل ضد مصلحة لبنان»، برز استقبال وزير الداخلية لوزير الإعلام ملحم الرياشي (من وزراء «القوات اللبنانية») الذي اعتبر ان «هناك انقساماً حاد في البلد بما يخص العلاقة مع سورية»، معلناً أنه «في حال قام بعض الوزراء بمخالفة البيان الوزاري الذي قامتْ على أساسه الحكومة فالحكومة بخطر». وأكمل المشنوق مواقفه الاعتراضية بعد زيارته البارزة لمفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان معلناً أن «ما يحصل من لقاءات مع النظام السوري هو تجاوز للبيان الوزاري»، لافتاً إلى «أننا غير موافقين على القرارات التي يتخذها البعض ولا نوافق على سياسية المفاجآت». وإذ اعتبر «ان الاجتماع مع النظام السوري لا يساعد على الاستقرار الحكومي»، رأى أن «ما حصل يعبّر عن تحول سياسي ليس جزءاً من التسوية التي اتفقنا عليها وهذا الأمر غير مقبول».
مشاركة :