فيليب الثاني والبحر الأبيض المتوسط، يا له من موضوع جميل! ولكن، لمَ ليس البحر الأبيض المتوسط وفيليب الثاني؟ أوليس هذا موضوعاً كبيراً هو الآخر؟ فالقسمة في الواقع بين هذين اللاعبين الكبيرين ليست عادلة». من المؤكد أن هذه الفقرة المنتزعة من رسالة بعث بها المؤرخ الفرنسي لوسيان فيبر ذات يوم من العام 1923 الى تلميذه الشاب فرنان بروديل، تعتبر من المواقف التأسيسية للتجديد الذي طاول علم التاريخ أواخر الربع الأول من القرن العشرين، أي تحديداً عند تلك السنوات الانعطافية التي كان يشتغل فيها فيبر مع زميله مارك بلوخ لإحداث تلك الثورة الكبرى في ذلك العلم الذي كان حتى ذلك الحين والى حد كبير، علماً وضعياً قائماً على تحري الأحداث والشخصيات الكبيرة في التاريخ، فإذا بهما ينقلانه الى كينونته الجديدة كعلم قائم على دراسة الحياة السياسية والجغرافية والسلوكية والسيكولوجية... بخاصة الاقتصادية. ومن هنا يمكننا أن نفهم جوهر ملاحظة أستاذ التاريخ فيبر يومذاك والتي لم تكن تحوي مجرد نوع من القلبة في ترتيب الأولويات، بل قلبة أساسية في التعاطي مع التاريخ. أما الموضوع الأساس الذي حرك تلك القلبة فلسوف يتحول، إنما بعد سنوات طويلة، الى ذلك السفر التاريخي الضخم الذي سيكون خلال النصف الثاني من القرن العشرين أحد المعالم الكبرى في كتابة التاريخ، وباعثاً للدراسات المعمقة من حول البحر الأبيض المتوسط، وواحداً من ثلاثة أعمال ضخمة، على الأقل، طبعت مسيرة فرنان بروديل العلمية، الى جانب «الحضارة المادية، الاقتصاد والرأسمالية» و «هوية فرنسا» ناهيك بالعديد من المؤلفات الأخرى التي صنعت له مكانته كواحد من المؤرخين الكبار في القرن العشرين. > ولكن خلال النصف الأول من عشرينات ذلك القرن حين أخبر بروديل أستاذه بمشروعه البحثي، لم يكن قد أصبح بعد تلك القامة العملاقة في علم التاريخ. كان مجرد باحث شاب يفتش عن طريقه ولسوف تكون ملاحظة أستاذه خطوته الأولى على تلك الطريق. ولكن أيضاً ممره ليصبح مع إنجازه الكتاب أحد الأعضاء المؤسسين في جمعية ومجلة «الحوليات» التي باتت منذ تأسيسها في العام 1929 لسان حال ذلك التاريخ الجديد. ولئن كان في وسعنا اليوم أن نقرأ بكل راحة ومتعة كتاب بروديل المتوسطي هذا ونتعمق في دراسة علاقته بـ «التاريخ الجديد»، لا يتعين علينا أن ننسى المغامرة التي كمنت وراء العمل على هذا الكتاب، إذ صحيح ما ذكرناه من أن فكرته بدأت لدى بروديل في العام 1923 غير أن الكتاب ذاته في صفحاته التي تربو على الألف ومئتي صفحة من القطع الكبير والمقسومة الى ثلاثة أقسام، لم يصدر بالفعل إلا في العام 1949 أي بعد ثلاث سنوات من انقضاء الحرب العالمية الثانية. ومع هذا، بدأ بروديل العمل أول الأمر عليه حالماً وردته ملاحظة لوسيان فيبر فأمضى سنوات في التصميم والتحضير حتى اتخذ قراره النهائي مستجيباً للملاحظة، ثم أمضى من بعده اثني عشر عاماً في القراءة وتدوين الملاحظات ومراجعة الأرشيفات في عدد من البلدان والمدن المتوسطية، وكل هذا وسط إلحاح أستاذه وحضّه إياه ولا سيما خلال السنوات الأخيرة حيث بدأت نذر الحرب تلوح في الأفق وبدا واضحاً أن المنطقة المتوسطية ستكون أحد ميادينها وبالتالي لن يكون من السهل على بروديل مواصلة العمل. وبالفعل ما إن أعلن الباحث الشاب لأستاذه في العام 1939 أنه انتهى من كل التحضيرات وبات مستعداً للبدء في الكتابة، حتى اندلعت الحرب. لكنها لم تندلع في نهاية الأمر لتنسف المشروع بل لتحييه وتجعله ممكناً وبطريقة مواربة تماماً. > فخلال المرحلة الأولى من الحرب، جُنّد بروديل ضابطاً في القوات الفرنسية ثم ما لبث أن وقع وعدداً من جنوده في أسر الألمان الذين وضعوه في معتقل مايان. وهناك في المعتقل بالتحديد دبج بروديل صفحات كتابه مستعيداً الاشتغال عليه مرتين وأكثر مبدلاً خلال سنوات الأسر من الفترة الزمنية التي يتناولها، مستخدماً للكتابة دفاتر مدرسية، كانت الوحيدة المتاحة له في الأسر، مشتغلاً على ذاكرته ولكن كذلك على ما كان استطاع تهريبه معه من دفاتر وأوراق حملت تفاصيل ملاحظاته وبحوثه التي اشتغل عليها سنوات وسنوات، ثم أخيراً مستعيناً بما توافر له من قراءات ألمانية حول ذلك الموضوع الذي بات موضوع الكتاب: البحر الأبيض المتوسط وجغرافيته واقتصادياته ولا سيما المبادلات التجارية فيه خلال حقبة من الزمن بدلها بروديل مرات عدة؛ فمرة كانت تمتد من 1558 الى 1570، ثم مرة من 1550 الى 1600، بل إنه فكر مرة أخرى في أن تكون الفترة الزمنية المشمولة في الكتاب ممتدة من 1450 إلى 1650 معلقاً في رسالة كتبها «علينا أن نوسع نظرتنا وإلا فما نفع التاريخ؟». المهم أن فرنان بروديل ومع انتهاء سنوات أسره كان قد أنجز كتابه الذي لن يتوانى عن أن يقول في العام 1972 انه لولا وجوده في الأسر لكان الكتاب قد طلع بين يديه شيئاً آخر تماماً»، لكنه لم يوضح في أي اتجاه! > مهما يكن من أمر، في العام 1949 إذاً، وفي وقت كان بروديل قد بدأ يشتغل فعلياً على تحفته العلمية التالية «الحضارة المادية...» صدرت في باريس الطبعة الأولى من كتابه المتوسطي هذا. صدر ليساهم الى جانب مجلة «الحوليات»، كما الى جانب مؤلفات بلوك وفيبر في تلك الثورة التي شهدها علم التاريخ محدثة فيه تلك النقلة الإنسانية - الاقتصادية التي باتت اليوم من قبيل تحصيل الحاصل مرسلة التاريخ الوضعي المعهود، الى متحف التاريخ. فما هو هذا الكتاب ولماذا هو ثوري وتجديدي؟ > يتألف الكتاب كما أشرنا من ثلاثة أقسام ضمها جزآه، وهو صيغ في الأصل على شكل أطروحة دكتوراه سيناقشها الباحث في العام 1947 أي قبل نشر الكتاب بصيغته النهائية بسنتين. ولسوف يشغل جزآه نحو الف ومئة وستين صفحة في طبعته الأولى لكن بروديل سوف يضيف اليه أربعين صفحة أخرى في العام 1966 أي في طبعته التي ستكون معتمدة في الطبعات العديدة التالية. ويتناول التقسيم الذي جعله بروديل نهائياً منذ العام 1941 حين بدأ صياغته النهائية، قسماً أول يتحدث فيه عن حصة البيئة في التكوّن التاريخي معتبراً الجغرافيا عنصراً أساسياً يساعد التاريخ ومن هنا يسهب في وصف جغرافية هذه المنطقة من العالم ومتوقفاً مطولاً عند الجزر المتوسطية والأدوار التي تلعبها في تاريخ المتوسط. وفي القسم الثاني المنطلق أصلاً من القسم السابق عليه، يشتغل بروديل على ما يسميه «المصائر الجماعية وتحركات الجماعات»، حيث يقول لنا هو نفسه إن هنا يكمن الجانب الأساس من طروحاته. فـ «صحيح أن حركة هذه الانزياحات تبدو شديدة البطء عادة لكنها هي تحديداً من هيكل البنية الديموغرافية المتوسطية». ومن هنا نجدنا في هذا القسم في قلب التاريخ الاجتماعي وسيرورة تكوّنه في المرحلة التاريخية المحددة المدروسة في الكتاب، مع التركيز على المدن التي يعتبرها المؤلف مفاتيح المتوسط كالبندقية ومرسيليا وتوسكانا والمدن الأندلسية وصولاً الى اسطنبول، المدن التي شكلت محاور التبادلات السكانية والاقتصادية بالتالي... وأخيراً، في القسم الثالث، يدرس بروديل ما يعتبره الجانب الحدثي في التاريخ، أي السياسات المباشرة والأحداث والناس أنفسهم على اعتبار أن هذا يشكل ما يعتبره المؤلف «الحركة على السطح» أو حتى «نوعاً من التأرجح العابر والسريع والعصبي»، ما يسنح له هنا بالتوقف عند الإمبراطوريات المتنافسة، ولا سيما منها الإسبانية والتركية واصفاً مؤسساتها المعقدة وسكانها وأساطيلها..... > طبعاً ليس ما سبق سوى مؤشرات شديدة البساطة من غير الممكن لها ان تنم فعلياً عن الغنى الذي يسم هذا الكتاب، لكنها تخدم كنوع من المدخل الذي يحث على التوغل في هذا النص المدهش والذي أثر حتى اليوم في أعداد لا تحصى من الدارسين وجرّ في ركابه دراسات لا تنتهي عن هذه المنطقة من العالم. ومن المؤكد انه لولا إنجاز فرنان بروديل (1902 - 1985) الذي يكاد يكون عجائبياً لهدا الكتاب، لما كان في الإمكان ولادة كتابه التالي، الكتاب المؤسس بدوره «الحضارة المادية، الاقتصاد والرأسمالية» الذي سيوسع نفس مواضيع الكتاب الذي بين أيدينا هنا لتشمل رقعة من العالم أوسع بكثير وكذلك رقعة زمنية أطول.
مشاركة :