علم تحليل البيانات مولود أكاديمي للقرن الـ 21 والذكاء الاصطناعي

  • 9/26/2017
  • 00:00
  • 19
  • 0
  • 0
news-picture

هل سمعت ذات مرّة أنّ طائرات الـ «درون» الأميركيّة قصفت مدنيّين في اليمن أو باكستان أو الصومال، من طريق الخطأ؟ الأرجح أنّك سمعت ذلك مراراً وتكراراً. ولعلك شاهدت أيضاً وجوهاً محتقنة على الشاشات تناقش ذلك الموت- الخطأ، فتبرره، بعضها بالإشارة إلى أنه «أضرار جانبيّة» للحرب الضروريّة على الإرهاب، فيما تدينه وجوه أخرى باعتباره مجزرة تنفّذها دولة تدّعي حماية الديموقراطية عالميّاً وغيرها. الأرجح أيضاً أنّك نادراً (بل ربما أبداً) ما سمعت من يفسّر علاقة تلك المقاتلات مع العلوم التي تستند إليها الآلات الذكيّة كطائرات الـ «درون» المؤتمتة، إذ تنجم مجموعة من تلك الغارات الفتّاكة بسبب أخطاء تحدث في سياق علم تحليل البيانات Data Analysis. نعم، ترتكب الحواسيب التي يعمل عليها خبراء وعلماء، أخطاء في تحليل المعلومات والبيانات المتراكمة لديها عن مجموعة أو شخص أو تنظيم. وتكون نتيجة الخطأ الذي ترتكبه الآلات الذكيّة غارات تفتقد إلى الإنسانيّة والذكاء سويّة. ويقصف أبرياء لا ذنب لهم سوى أنّ البرامج المؤتمتة في الكومبيوتر ارتكبت أخطاء في سياق تحليل البيانات المتراكمة لديها عن آخرين مشتبه بهم في الإرهاب. ولعله ليس مألوفاً تقديم علم ما عبر أخطائه، على غرار ما فعلته الكلمات السابقة، لكنها ضرورة لتقريب صورة ذلك العلم المعاصر المتصل بعصر المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة. ووفق قاموس التعريفات العلميّة الذي تستند إليه «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» Organization for Economic Co-operation Development، يكون «تحليل البيانات» هو علمٌ يعمل على تحويل البيانات من صورتها الخام إلى معلومات واضحة وقابلة للاستخدام. وتتبنّى الأمم المتحدة ذلك التعريف عينه الذي ظهر رسميّاً في خريف العام 2001. ويعني ذلك أيضاً أنّه علم حديث، بل أنّه أحد الأبناء الأكاديميّين للقرن 21، إضافة لكونه متّصلاً بالظواهر المتأتيّة عن الانتشار الواسع للحواسيب وشبكات الاتصالات المتطوّرة بأنواعها كافة.   هاتفك يدينك! هل تريد مثلاً ما من حياتك اليوميّة عن العلاقات المتشابكة بين البيانات وشبكات الاتصالات المعاصرة؟ حسناً. ضع خليويّاً في جيبك، وتمشّى في الشارع قليلاً. هل تعلم كميّة البيانات التي قدّمتها أنت بنفسك إلى شركات الخليوي التي ستحتفظ بها وربما إلى الأبد؟ فكّر مجدداً في الخليوي النائم في جيبك. يجري ذلك الجهاز حسابات تتعلّق بمكان وجوده، استناداً إلى أبراج شبكة الخليوي القريبة منه. ولا يتعلّق ذلك برغبة شركة الخليوي في معرفة مكان وجودك، بالأحرى أنّها تحتاج معرفة بيانات عن أمكنة وجود هاتفك الخليوي كي تحوّل المكالمات إليه. ابعث برسالة «إس أم أس» أو أجرِ محادثة صوتيّة عبر «واتس آب». قدّمت لتوك نوعاً آخر من البيانات التي تتمثّل في السجّلات عن الرسائل المتلقاة والمُرْسَلَة، والأجهزة التي مرّت بها، والمؤسّسات والأشخاص الذين يملكون تلك الأجهزة مع مواقعها، إضافة إلى توقيت تبادل البيانات ومدّته وغيرها. وفي كل رسالة تبعث بها عبر البريد الإلكتروني («إيميل») سواء من الكومبيوتر أم الخليوي، يتم ضخّ بيانات عن المُرسِل والمتلقي ومسار الرسائل وأحجامها، إضافة إلى تصنيفات متنوّعة عن كل سطر في ذلك البريد. إذا أرسلت صورة عبر الـ «واتس آب»، فهي تحمل معها تواريخها والرقم المتسلسل للكاميرا، ومعطيات إعداداتها، ومعلومات الـ «جي بي أس» عنها وما إلى ذلك. وتحتوي الهواتف الذكيّة كلّها على تقنيّة «جي بي أس» GPS التي تنتج بيانات عن أمكنة وجودك، بدقّة تفوق ما تعطيه أبراج شبكة الخليوي. إذ تستطيع تقنية «جي بي أس» في هاتفك الذكي أن تحدّد موقعك بدقّة تتراوح بين 17 و27 قدماً (= بين 5.2 و8.23 متر)، فيما تصل المسافة عينها إلى قرابة 2000 قدم (= 610 أمتار) بالنسبة الى أبراج الخليوي.   استعصاء «الجامع المانع» في العام 2014، وصلت إلى خليويات الجمهور رسالة «إس أم إس» من الحكومة الأوكرانيّة، تبدو كأنها منقولة من رواية الكاتب جورج أورويل «1984»، إذ جاءت كلماتها على النحو التالي: «عزيزي المشترك، جرى تسجيلك كمشارك في شغب جماعي»! وحصلت الحكومة على بيانات عمن تجمهروا ضدّها من بيانات بثّتها هواتفهم إلى أبراج شبكة الخليوي في منطقة التجمهر. لا يذهب بك الظنّ الى أن ذلك السلوك يقتصر على البلدان التي تحكمها نُظُم شموليّة وحدها. في العام 2010، استطاع البوليس في ولاية ميتشغن الأميركيّة الحصول بصورة قانونيّة على أرقام هواتف كل من كانوا قرب مكان إضراب عمالي متوقّع، وتعرّف إلى أصحابها. وفي منحى أشد صرامة، تمكن الإشارة إلى ذلك التطوّر الهائل في عالم النشر الإلكتروني المترافق مع نمو متسارع لمجتمع المعلومات ومجتمع المعرفة، وتنامي حرية النشر أيضاً. وأدّت تلك المعطيات إلى إضفاء طابع ديموقراطي على أشكال التعبير. وحاضراً، يبدو الكل منخرطاً في النشر بغض النظر عن جودة الإنتاج. وأوصلتنا تلك الأمور إلى ما يسمّى حالياً «البيانات الضخمة» big data، التي ساهمت في صعود علم تحليل البيانات، خصوصاً أنها وضعت بين يديه كل تلك «البيانات الضخمة» كي يعمل عليها ويتطوّر بفضلها أيضاً. ولكن حتى الآن، يمثّل تحديد ذلك العلم في شكل دقيق مهمة صعبة تماماً. ويرجع جزء من الصعوبة إلى كونه علماً قيد التشكّل، ما يعني أنه قيد عمليات تطوّر وتحوّل، بل يزيد في اتساعه أنّه مرتبط أيضاً بالتطور في إنتاج البيانات على كل الصعد. وفي كلمات أكاديميّة خالصة، يتمدّد علم تحليل البيانات على مساحة ما من التقاطع بين علمي الإحصاء والمعلوماتيّة، فيكون تعريفه علميّاً صعباً بالضرورة. لماذا؟ لأن التعريف العلمي يجب أن يتمتع بصفتين أساسيّتين. أولاهما أن يكون شاملاً كل الأشياء التي يقول أنه يشملها، وثانيهما أن لا يكون هناك إمكان لوضع أي من تلك الأشياء ضمن تعريف آخر. ووصف العرب قديماً ذلك الأمر بـ «الجامع المانع»، وهو ما زال بعيداً من تعريف علم تحليل البيانات. إنّهم يتاجرون بك أليس كذلك؟ في كل صباح تضع فيه الخليوي في جيبك، أنت تعقد صفقة غير معلنة أو مكتوبة، وليست جزءاً من العقد الاجتماعي على طريقة جان جاك روسو. تقول تلك الصفقة: «أريد أن أتبادل المكالمات عبر الخليوي، وفي المقابل أسمح للشركة التي تعطيني خدمات الاتصال بأن تعرف أمكنة وجودي بدقّة على مدار الساعة». يتتبع الخليوي أمكنة عيشك وعملك. ويتتبّع الأمكنة التي تميل الى قضاء الأمسيات والعطل الأسبوعيّة فيها. ويتتبّع وتيرة حضورك إلى الأمكنة الدينيّة (بل يحدّدها بدّقة)، والمدّة التي تقضيها في المقصف، ويرصد سرعتك أثناء قيادتك السيارة. وبحكم معرفته لأجهزة الأخرى، يتتبّع أيضاً الأشخاص الذين تقضي أيامك معهم، ومن تلتقيهم على وجبة الغداء، ومن يخلد جسدك إلى النوم قرب جسدها أيضاً! الأرجح أن تلك البيانات المجمّعة تستطيع أن ترسم صورة عن طريقتك في تمضية الوقت، بأفضل مما تستطيع أنت، لأنها وليدة الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence، وليست مضطرة للاستعانة بالذاكرة البشريّة التي لا تكف عن الاضطراب! في العام 2012، استطاع بحّاثة أن يتوقّعوا أين ستمضي الناس أوقاتها في الـ24 ساعة التالية، وضمن مسافة 20 متراً.   ما تصنعه يد الآلات ولا تنقضه يد الإنسان هناك صناعة كاملة مكرّسة للحصول على بيانات يصنعها الذكاء الاصطناعي للآلات الذكيّة التي ربما تباهت بالحصول على الأحدث من بينها فحملتها معك باستمرار، تشمل أمكنة وجودك على مدار الساعة، وبالوقت الحيّ وما إلى ذلك. وتستعمل الشركات البيانات التي يبثها إليها هاتفك الخليوي كي تتبع المخازن التي تتسوّق منها، فتتعرف إلى طريقتك في الشراء. وعلى غرار ذلك، تتبعك شركات الاتصالات أثناء تنقلك على الطرق كي تعرف إن كنت موجوداً في وقت ما قرب مخزن محدد، فترسل لك إعلاناً على الهاتف استناداً إلى بيانات هاتفك عن أمكنة تواجدك! تمتلك البيانات عن أمكنة تنقل الأفراد قيمة كبيرة إلى حدّ أن شركات الخليوي صارت تبيعها إلى سماسرة مختصين يبيعونها بدورهم إلى كل راغب في الدفع لقاء الحصول عليها. وتتخصّص شركات كـ «سينس نتوركس» في صنع «بروفايل» شخصي عن كل منا، استناداً إلى ذلك النوع من البيانات. انطلاقاً ممّا تقدّم، إلى أي مدى يمكن التقدّم في تعريف علم البيانات؟ كيف يمكن تحسين أداء تعليم العاملين فيه؟ الأرجح إنّ تلك الحال تضع الجامعات في الواجهة، كونها المرشح الأول للتفتيش عن حل لمسألة التعريف العلمي. ولا بد من التذكير بأنّ جانباً من تحليل البيانات يبدو مألوفاً، خصوصاً إذا أُعطِيَ تعريفاً غير علمي يصفه بأنّه فن الإجابة عن أسئلة متّصلة بالبيانات وشكلها وسياقها، للتوصّل إلى حلول عن مسائل معينة. بذا، يكون دور المختص بذلك العِلم هو تحديد البيانات المتعلقة بقضية معينة، وجمعها واستنطاقها، ووضع في سياق نماذج إحصائيّة، فينفتح الطريق إلى استخراج معلومات مفيدة منها.

مشاركة :