يمثّل هذا الكتاب "النقد الفلسفي.. من الإصلاح للتغيير ومن النقد إلى التقويض" للمفكر الأردني زهير توفيق عرْضاً تحليلياً لطبيعة النقد الفلسفي، وعلاقته بمشـروع التغيير أو ما يسمى بالمشـروع النهضوي تارةً والمشـروع الحضاري العربي تارةً أُخرى. وقد اتخذ هذا المشـروع من التغيير والتقدّم قضـيةً مركزية، تتفرّع عنها القضايا والإشكاليات الأُخرى الَّتي يدور حولها الفكر العربي الحديث والمعاصـر، لتحديد عوامل تعثُّر مشـروعه بسبب غياب النقد الفلسفي كقاعدة معرفية لا بد منها لحماية المشـروع من عوائقه المعرفيَّة والاجتماعيَّة الَّتي ألمّت به كالانتقائية والتلفيق والتجريبية والنماذج القياسـية القديمة. وقد رأى زهير توفيق في كتابه الصادر عن الآن ناشرون وموزعون أن المنظومات الفكريَّة العربية - الَّتي انحطَّت إلى مستويات مدرسـية كالماركسـية الليبرالية والليبرالية الماركسـية وغيرها من المناهج الفلسفية - فشلت في تشكيل نظرية نقدية فلسفية، نظراً للتطبيقات المشوّهة والاستعارات التلفيقية. وقال "لن يتشكل ذلك النقد الفلسفي الواعي لذاته بأبعاده وأهدافه إلا باستعادة الفلسفة وحضورها، لتحويلها من حرفة إلى رسالة، ودفع عناصـرها الغربية والعربية لإنتاج مركَّب نقدي شامل يتكون من النقد المعرفي الكانطي، والاجتماعي الماركسـي، والقيمي النيتشوي، ومدرسة فرانكفورت. وتخصـيبها بالمعطيات العربية المعاصـرة التالية: نقد العقل: محمد أركون ومحمد عابد الجابري ـ نقد الفعل: فهمي جدعانـ نقد السـياسة: محمد جابر الأنصاري.ـ نقد المجتمع الأبوي: هشام شـرابي ـ نقد المجتمع الذكوري: النسوية العربية. أما المناهج الأُخرى النقدية وغير النقدية فلسنا معنيين بها ما دامت منحازة إلى سلطة الأمر الواقع، وتعادي التغيير وتزيِّف معطياته. لقد آن الأوان لاسترجاع الفلسفة وإعادة بناء أو إنشاء نقدها الجذري، وتحديد طبيعة عمله وشـروطه وعلاقته بالتغيير والمناهج المحافظة والمناهضة له. ويتوقع البعض محلياً وعربياً زيادة حدَّة الفلسفة والنقد الفلسفي. ولكن أي نقد، وأي فلسفة نريد؟ هل الفلسفة الوضعية الَّتي تشكل قاعدة العلوم الإنسانيَّة الراهنة في أغلب الدوائر الأكاديمية المحلية والعربية، هي الأمل؟ أليست هي المشكلة بحد ذاتها، والعامل المعيق للنقد والتغيير كونها نصـيرة الأمر الواقع تحت مسميات كثيرة مضلِّلة. وقال: يماثل النقد الفلسفي مفهوم الرؤية أو بعد النظر في حركته الجدلية الصاعدة والهابطة، دون أن تستغرقه هذه المفاهيم للسـيطرة على صـيرورة الأشـياء في إطارها الجيوتاريخي، وهي مهمَّة لا تحققها إلا رؤية واقعية ملتزمة بالمستقبل المنتج لكينونتنا المضادة من أجل أنسنة الواقع لأنسنة تأثيره فينا، لتجاوز التبعية و"الخوف من الحرية". فغالباً ما تكون الخيبة مصدراً للردة والضـياع، وهي مهمَّة مطابقة لمهمات الفلسفة النقدية ووظيفتها كما يتصورها هوركهايمر: "إن الوظيفة الاجتماعيَّة الفعلية للفلسفة تكمن في نقد ما هو سائد. إن الغرض الأساسـي لمثل هذا النقد هو منع الإنسانيَّة من ضـياعها على مستوى الأفكار والنشاطات التي يبثها التنظيم القائم في المجتمع في أعضائه، ويجب أن يدرك الإنسان العلاقة القائمة بين نشاطاته وما تم إنجازه من خلالها وبين وجوده الخاص والحياة العامة. وأكد أن هذا الأمر يتطلب نقد الاستبداد بوصفه أهمَّ مدخلات التخلف، بعيداً عن الحيل العقلية والسـياسـية الهادفة للتخفيف من وطأته، كالإسقاط والسكوت وإنكار الواقع وتجميله واستبداله بالماضوية والإرجاء. وما دامت الرؤية مطابقة بشكل أو بآخر للنظر العقلي، فالنقد الفلسفي نظراً، أو استدلالاً عقلياً لتحصـيل معرفة جديدة أعمق مما يبديه الواقع بذاته، ويحمل الكثير من الدلالات العقلية؛ كالتفكير العميق بالموضوع والنظر في كيفية تدبره، والمجادلة فيه لتوضـيحه وتقريبه من الأذهان، وهي في مجموعها إجراءات نقدية تربط الرؤية بالمنهج، وتستبقه لتأطيره بتأطير موضوعه كإشكالية معرفية، كما ترتبط من جهة أُخرى بالذات الكلية كوجهة نظر شمولية، لتمييز هذا الشعب أو هذه الأمة عن غيرها، وغالباً ما تكون هذه الرؤية النقدية منحازة - وتلك مفارقة تتطلب حلاً - تستهدف تأمل الواقع والتطلع الحكيم لاستنباط معنى حياتها، وعلاقتها بالحقيقة، وكيفية امتلاكها لذاتها، إما بجوهرتها بقبول التحديث وطرد الحداثة لتحصـين الذات من تداعياتها ونتائجها المنطقية لتثبيت أصالتها الخارقة للتاريخ، وإما بمطاوعة الحداثة لتغيير الذات، واختراق هويتها النمطية وفتح المجال لتحول جذري في الحياة، والاحتمال الثالث هو الوقوف في منتصف الطريق عجزاً عن ردم الفجوات المحتملة في سـياق التغيير: كالفجوة الجيلية، والتمدن في التحضـر، والحداثة في التحديث... إلخ، ولكوننا داخل تلك الفجوات التي تحبل بالثنائيات الضدية فإنها بالضـرورة تلد وتورث الوعي الشقي الملازم لأزمة المجتمع الحضارية، وملمحها الأساسـي انسداد الأفق، لغياب حامل التغيير. وأشار زهير توفيق إلى أن الأحداث المتسارعة تبدو بفضل العلم والتكنولوجيا قمينة بصنع المستقبل، وجعل الحاضـر والمستقبل وحدة زمنية واحدة تتبادل التأثر والتأثير. وقال إن هذا المستقبل أصبح أكثر قرباً وشفافية، بل وقابلاً للاختراق والاستطلاع والنمذجة العلمية الديناميكية بصـياغة السـيناريوهات المحتملة، وأصبح بالإمكان استطلاع آفاق العقد القادم وتفسـير ظاهراته والتحكم باتجاهاته بشـرط أساسـي - يتوفر للغرب ولا يتوفر للعرب - هو استقلال الذات التاريخيَّة وتجلياتها بالسـيطرة على الواقع وإنتاج منتجاته. ورأى أن التنبؤ بالمستقبل لم تعد في الغرب مشكلة بحثية في فلسفة التاريخ "العلمية"، بل إن المعضلة الكبرى هي كيفية التنبؤ بالمستقبل العربي والعرب "خارج التاريخ" - وهي مقولة مجحفة ومبتذلة في الوقت نفسه - والانتقال من التنبؤ بالمستقبل القريب إلى التنبؤ بالمستقبل الأبعد وكيفية السـيطرة عليه؛ أي مستقبل المستقبل، أو ما أسميه ما بعد المستقبل، الذي يحتاج إلى منظومة معرفية تستمد مشـروعيتها من خارج الواقع القائم. وما دام مستقبل المستقبل بنية صورية، فلا يحال عليه إلا فكر مستقبلي للتحقُّق منه ومطابقته به. فلا مناص إذن من تكوين فلسفة تاريخ واقعية ونقدية؛ لتسويغ نفسها كمشـروع فكري منفتح على إنجازات مختلفة الأبعاد، ولا تجد اكتمالها في ذاتها إلا في الزمن القادم. ويتطلب هذا حذراً شديداً، لأنه مرشح لفتح باب الانحرافات الشمولية التي تحذر منها الفلسفة، ووضع ترسـيمات إيديولوجية لتطبيق هندسة اجتماعيَّة صارمة لتأهيل المجتمع الراهن ونقله من واقعه إلى الحداثة والمستقبل دفعة واحدة، لا تُعنى بالكلف والتضحيات لإثبات أن التقدم الاجتماعي لم يعد حركة عفوية، بل هو في متناول الإرادة السـياسـية المتحكمة بوعي الناس. وتعمل تقنية التحكم والسـيطرة على تطوير العلم الاجتماعي والطبيعي لتغيير المجتمع القائم وتوجيهه لغايات تتصور أنها نبيلة وعقلانية، تتمثل بالكمال الإنساني والرفاه المطلق. وأكد زهير توفيق أن كل تغيير مسبوق بثورة نقدية على النماذج العلمية والفكرية وتشكل مهاداً معرفيّاً لمحتوى التغيير وغاياته. ولا يعني ذلك تطبيقاً آلياً لوصفات مسبقة، بل يعني تعميم الوعي النقدي، وجعل السـياسة على سبيل المثال ممارسة نقضـية واعية لمتطلبات التغيير فيها أولاً ولمتطلباتها في مشـروع التغيير الَّذي انخرطت فيه ثانياً. وأضاف: يمثل طموحنا باستعادة الفلسفة وتفعيلها مطلبا إنسانياً وسـياسـياً بدأ الجميع يتحسس كارثة غيابه عن الصـراع الفكري اللازم لتجاوز الوضع القائم، ببناء مشـروع مستقبلي يحقق الكفاية المعرفيَّة، والأمن الثقافي لجميع الناس المؤهلين للانخراط فيه، والتأثير في مساره. فليس الناس كما تصور المثقف النهضوي مجرد موضوعات مصمتة لا تدرك ذاتها ويتطلب العمل من أجلها شل إرادتها لحماية مشـروع النخبة من التشويش، ولا نريد هنا السقوط في مذهب "التطبيل للشعب" للقول بأن الناس غايات وذوات ناضجة، وإرادات مستقلة، قادرة على المشاركة والمبادرة والاسترشاد بحسها السليم. فما يهمنا من كل ذلك هو النقد الفلسفي الَّذي لا معنى له بعيداً عن شعبه وناسه، فـ (الشعب) موضوع التغيير وذاته. وأوضح زهير توفيق أن النقد الفلسفي يرتبط بالتغيير الجذري القائم على مستوى الفلسفة الباحثة عن إلغاء ذاتها إذا استطاعت تحقيقها في الواقع، وتمثل حلوله مقدمة نظرية للتغيير، فهو والنَّظريَّة النقدية شـيء واحد، وشـرط مسبق لممارسة واعية لا تسـيطر عليها إلا فلسفة حية، قادرة على تمثّل الواقع وتجاوزه بتجاوز قدرة العلوم الجزئيَّة على النقد الشامل نظراً، لعجزها عن رؤية الكل الاجتماعي الَّذي هو موضوعها الجانبي. يشكل النقد الفلسفي منهج التغيير وروح الفلسفة الحية كفلسفة واقعية مشخّصة لا تتسامى فوق الواقع إلا لاحتوائه، وتحديد اتجاهاته الأكثر جذرية، فالممارسة ليست بالضـرورة صحيحة أو نهائية لأنها قائمة، أو لأنها البديل الوحيد، بل يجب مساءلتها والشك في أصولها وشـروطها ومطابقة معطياتها بممارستها في الواقع. لا يمكن للنقد الفلسفي حماية ذاته من التحجر إلا بإعادة النظر في مفاهيمه ومصادراته؛ أي بنفي ذاته بذاته وقياس مستوى نجاحه بمستوى التقدم المحرز فيه، مادامت ممارسته التي يحيا فيها ديناميكية في مجتمع يحقق تقدماً ملموساً على جميع الأصعدة، ويتجاوز ذاته باستمرار. وستبقى تلك الفلسفة حية موقفا والتزاما ما دامت "واقعية مشخصة" تعيش التاريخ كممارسة متعينة، بعيداً عن وهم "الصفاء الفلسفي"؛ أي بعيداً عن التجريد والميتافيزيقيا. وفي تحليله لخطاب الأزمة العربية وعلاقة العرب بالنقد الفلسفي أوضح زهير توفيق أن الحياة العربية تتصف بالتناقض بالرغم من مظاهر التماسك والانسجام الَّتي تجاهد الأنساق السـياسـية والاجتماعيَّة على تثبيته، فهناك فوضى وعدم استقرار واقتتال داخلي وانهيار للسلم الأهلي بسبب الحراك المجتمعي العنيف الَّذي خرج عن السـيطرة المادِّيَّة والمعرفيَّة، فلا القوى الاجتماعيَّة ولا مناهجها المعرفيَّة بمستوى الحدث، لقراءته والتحكم في مساره. وليس مفاجئاً استعمال أدوات ووسائل زائفة لإجراء التغيير لغايات أُخرى ما عدا التحرر. فعلى صعيد الواقع العربي، هناك ثبات ديناميكي مرشَّح للانقلاب على ذاته، وهناك حراك استاتيكي يراوح مكانه، أنتج دولاً فاشلة استبقها حراك اجتماعي عنيف رافقه تحوُّل خطير وسـريع في القيم والعلاقات الاجتماعيَّة والسـياسة، تَمثَّلَ بغياب الديمقراطية والتسامح وسـيادة علاقات القوة والعنف في المجتمع والسـياسة، وأنتج دولاً عاجزة فقدت قدرتها على الاستمرار، وما زالت هناك خطابات أزمة ومشاريع مأزومة تتطلع للتغيير بمصطلحات ومسارات متناقضة وثنائيات ضدية كالثورة والتنمية، والإصلاح والنهضة، والطفرة والتدرج، والماضـي والمستقبل، والحداثة والتحديث، والحداثة وما بعد الحداثة، وكلها في الممارسة المعرفيَّة والاجتماعيَّة العربية مقولات فكرية إيديولوجية مجردة من مضمونها، ولم تتبوأ مكانها ومجالها الحقيقي في الممارسة من خلال ربطها بقواها الاجتماعيَّة القادرة على تمثُّلها وتحويلها إلى واقع، بغض النظر عن العوامل الخارجيَّة المضادة للتغيير، الَّتي تُطرح دائماً كمسوّغ للفشل، في حين أن الموقف العلمي من التغيير هو الموقف القادر على دمج قيمه في منظومته الفكريَّة ومعاناتها، ومواجهة معوقاتها شـرطاً جوهرياً لتحقيق التنوير. فلا يوجد مشـروع نهضوي مجاني دون مقاومة داخليَّة أو خارجيَّة، ولا يوجد شـيء اسمه عامل خارجي لإجراء تغيير داخلي، فلا تأثير خارجياً في الداخل إلا باستعداد ذلك الداخل وقابليته لاستقباله وفقدان مناعته الذاتية، فكلها شـروط بغض النظر عن التصنيف والتسمية. ونبه إلى أن الواقع العربي ليس بتناقضاته وصـراعاته مجرد معطى موضوعي مقرر بإرادة متعالية لا يطالها النقد والتغيير، بل هو محصلة تجربة مركبة تشكل وحدة تناقضاتها الذاتية (الوعي والعفوية/ الحتمية والصدفة/ الرغبة والقدرة/ الإرادة والجبرية/ الطبيعة والثقافة، الفرد والجماعة) جزءاً أساسـياً من واقع التجربة الإنسانيَّة في وصولها إلى ما وصلت إليه، وتتطلَّب بالضـرورة النقد الفلسفي لتفكيكها وتفكيك تناقضاتها الَّتي تمنحها الديناميكية وشـرط التغير والتغيير، وتلك هي مسؤولية أخلاقيَّة ومعرفية ملقاة على عاتق النقد الفلسفي الَّذي يستشعر مسؤولياته كما يقول هوسـرل "كنقد شمولي للحياة، ولأهداف الحياة كلها، وللأنظمة والإنجازات الثقافية الَّتي خلقها الإنسان, وبالتالي فـ (الفلسفة) نقد للإنسان نفسه وللقيم الَّتي تغمره شعوريّاً أو لا شعوريّاً". وبتخليه عن مسؤولياته يتخلى النقد عن وعيه بذاته؛ أي عن الإنسان العربي ومشـروعه، وتنتفي الحاجة إلى توتير التناقضات وتصعيدها إلى حدود الأزمة المجتمعية والمعرفيَّة أو الإشكالية المسوّغة للتغيير. وشدد زهير توفيق على أن النقد الفلسفي لا يكتفي بالبحث في مشكلات الواقع العربي، بل يعمل على استكشاف مشكلات الواقع فيه بما فيها إمكانية هزيمة حلوله الَّتي استبقت شـروط تحقُّقها، واستفزت قوى الشد العكسـي والثورة المضادة للعمل المباشـر والمنهجي على استبعاد التغيير ودحره، ليس خوفاً على مصالحها فحسب، بل خوفاً على مستقبل آتٍ فقدت فيه الحق في استملاكه ومنع تعويمه بتغييبها ذاكرتها أو فقدانها لتغييب التغير وحتميته وعدم قدرتها على التحكم بمصـيرها الذاتي. ولفت إلى أنه بغياب النقد الفلسفي عن الخطاب العربي تتمأسس الكتابة الغثة، ويفسـر شـيوعها غيابه عنها بحضورها المكتفي بذاته الَّذي ولّد صمت الآخرين، بما يعادل الرضا عن الوجود القائم. ونحن مع السكوت إذا كان البديل تطويب النفايات الثقافية ومنحها صكوك الجدارة - كما جرى ويجري تحت مسمى جوائز ومسابقات وحراك ثقافي حصّن مدّعي الفكر والإبداع ومشاريعهم المتعبة من النقد والتقويض. وما القراءات النقدية المحلية إلا احتفالية اجتماعيَّة باذخة لتظهير جلد الماموث وتحويله إلى جلد مدبوغ. محمد الحمامصي
مشاركة :