مارلين سلوم تختلط الأوراق في قصص الجرائم، فيصير المتهم بريئاً والبريء مجرماً. وحين تترجم الرواية إلى عمل سينمائي، يزداد الإقبال عليه لأن الرواية تحتفظ بسحرها وبتأثيرها المباشر وغير المباشر في الجمهور، فما بالك إذا كانت الرواية من نوع الجريمة المحسوسة وغير المرئية؟ تشويق يصل إلى ذروته حين تلبس الأفلام ثوب الرومانسية، وتخفي تحته جريمة مبطنة، يشعر بوجودها المشاهد لكنه لا يراها أمام عينيه ولا يلمس أدواتها بشكل صريح. هكذا هو فيلم «قريبتي ريتشل» الذي يعرض حالياً في دور السينما الإماراتية. لا تستغرب أن يكون فيلم «قريبتي ريتشل» من الأعمال المصنفة جيدة في قائمة الأفلام الأجنبية، فهو مأخوذ عن رواية بنفس الاسم لإحدى أشهر كاتبات قصص الجريمة والألغاز عبر التاريخ، البريطانية دافني دو مورييه. القصة جميلة، يلفها الغموض من كافة جوانبها كما يلف السواد بطلة الرواية الأرملة ريتشل. ربما لو أن مخرجاً آخر غير روجيه ميتشل تولى مهمة الكتابة السينمائية والإخراج لجاء الفيلم أكثر إثارة، وحقق نجاحاً أكبر، خصوصاً أن اختيار الأبطال كان موفقاً، وكل منهم قدم شخصيته بأداء رائع، لكن الخيوط فلتت أحياناً من يدي ميتشل، فوقع في الفجوة التي تفصل بين صمت الإثارة الذي يبقي المشاهد مشدوداً مترقباً لما سيحصل في المشهد التالي، وبين صمت الملل الذي يجعله يغفو حيناً ويصحو على لحظة إثارة أحياناً.ساعة و46 دقيقة تعيشها وسط أجواء الأرياف الإنجليزية التي صورها روجيه ميتشل بجمال، مراعياً كل التفاصيل الدقيقة والصغيرة، لنقل أجواء الشتاء البارد، وفق زمان ومكان الأحداث في الرواية. فيليب (سام كلافلن) طفل فقد أبويه فتبناه قريبه «أمبروز» (دينو بوغاتي) العازب. يكبر الطفل في بيت «ذكوري»، يعتاد فيه على فكرة الاستغناء عن المرأة وأن الحياة بدونها مستقرة وجميلة. أمبروز يتعب صحياً فيقرر السفر إلى فلورانس في إيطاليا، لاحتياجه للشمس وفق طبيبه. وسيلة التواصل الوحيدة بين فيليب وأمبروز هي الرسائل، التي تلعب دوراً مهماً في مسار الأحداث لاحقاً. يقرر أمبروز الزواج من امرأة إيطالية يصفها برسائله بالجميلة والحنون، ما يشكل مفاجأة لكل أقربائه وخصوصاً فيليب، إلى أن تصل الرسالة الصدمة والتي يستنجد فيها أمبروز بقريبه وهو على فراش الموت، واصفاً حالته بدقة، ومؤكداً بأن زوجته ريتشل (ريتشل ويز) تسقيه سماً بخلطة الأعشاب التي تعدّها. يسافر فيليب إلى فلورانس، لكنه يصل متأخراً ليجد محامياً يخبره بأن نسيبه توفي تاركاً له رسالة وبعض أغراضه. يعود فيليب مقرراً كشف الحقيقة، خصوصاً مع وصول ريتشل إلى القصر، لكن الأمور تجري عكس ما خطط له الشاب. مذنبة أم لا؟ قاتلة أم ضحية؟ سؤال لا يغيب عن بال فيليب، ولا عن بال المشاهدين. ورغم أن كل الأدلة تقودك إلى نتيجة حتمية بأنها مجرمة، فعلت ما فعلته عمداً من أجل الحصول على الثروة وتبديدها ببذخ، وبعد أن تقطع الشك باليقين والبراهين التي تضعها الكاتبة بين يديك، فإذا بالأحداث، ومع اقتراب النصف الأخير من الفيلم على نهايته، تعيد إليك الشك مرة أخرى، مقدمة براهين مناقضة. سر دو مورييه أنها تجيد الحبكة الدرامية وتقدم لك الجريمة على طبق من الرومانسية والترف الأرستقراطي. تضعك في قلب اللغز، وفي نفس الوقت توحي لك بوجود الجريمة وكأنك رأيتها بأم عينيك، في حين أنك لم تسمع سوى شهادات وبعض الدلائل. البطل هو الضحية الثانية للأرملة السوداء، والتي تكبره بعشرة أعوام، يقع في حبها ويقنع نفسه ببراءتها مدافعاً عنها أمام «لويز» (هوليداي غرينجر) ابنة نيكولاس كايندال الوصي على فيليب. تلك الصبية التي عاشت على أمل الزواج من فيليب، تحاول لفت انتباهه إلى أنه يقع أسير ريتشل، وسيكون ضحيتها التالية بعد أمبروز. ورغم كل المحاذير، يكمل مغامرته، ويقرر الزواج من ريتشل مسلماً إياها كل الثروة والممتلكات والمجوهرات.. تعود اللعبة إلى بدايتها، ويكتشف فيليب أنه بدأ يعاني تأثير الأعشاب التي تعدها الأرملة، من زهرة تفوح رائحتها في حقل ليس ببعيد. الحقيقة التي تكتشفها في النهاية، أن فيليب هو ضحية امرأتين، ريتشل ولويز. وبسبب سذاجته وبراءته في التعامل مع النساء، يقع في فخهما سريعاً. يشعر بأنه ظلم ريتشل، فيسرع لنجدتها بعد فوات الأوان. والختام يزيد الأمور غموضاً مع حرص المخرج على التركيز على نظرات لويز، وقد أصبحت زوجة فيليب وأم أبنائه. نظرات فيها الكثير من الخبث، فهي التي زرعت الشك في فيليب في البداية وفتحت عينيه على حقائق لم يكن يراها في ريتشل، ثم جاءت ببراهين تؤكد براءة الأرملة ومشككة في «هلاوس» فيليب. الرجل هو لعبة النساء في هذا الفيلم، والكاتبة أرادت أن تقدم قصة تنصر فيها المرأة على الرجل وتجعلها اكثر دهاء وذكاء، توقعه في حبالها قبل أن تطوق عنقه بها فتقضي عليه. المرأة مسيطرة تتحكم بكل شيء، والأهم أنها تتحكم بعواطف الرجل، بينما هو ينقاد مغرماً عاشقاً، مستسلماً مانحاً إياها ثقة عمياء وكل ما يملك. الممثلة ريتشل ويز تعتبر الأقوى في هذا العمل، تجمع في ملامحها بين البراءة والخبث، السذاجة والدهاء، الحب والكره، العاطفة والصلابة. رسمت بدقة شخصية الأرملة القاتلة بسلاسة. تتسلل بخفة إلى قلوب المشاهدين كما تسللت ريتشل إلى قلب فيليب. يعتبر الدور محطة تميز جديدة في مسيرة هذه الفنانة الحائزة جائزتي أوسكار وغولدن غلوب كأفضل دور ثاني عن فيلم «البستاني الدائم» عام 2006.«قريبتي ريتشل» رواية تصلح لكل زمان، عن لعبة الشك واليقين، وليس فقط عن سطوة المرأة وجبروتها، وضعت فيها المؤلفة الكثير من الواقع كما تراه هي، وبعضاً مما يلمس حياتها الشخصية، كما فعلت في رواياتها الأخرى، لتقدم الجريمة بلا دماء أو رعب، ويحوّلها المخرج إلى مشاهد أرستقراطية راقية. دو مورييه من مصر إلى بريطانيا رواية «قريبتي ريتشل» ليست الأولى ولا الأفضل بين مجموعة الكاتبة دافني دو مورييه، تلك التي تعتبر من بين أهم كاتبات قصص الجريمة التشويقية، مثلها مثل مواطنتها أغاثا كريستي، علماً أن هذه الأخيرة تخصصت في القصص البوليسية والبحث عن القاتل هو الهدف، أما دو مورييه فحاكت قصصها لتقديم التشويق مجبولاً بحكايات إجتماعية، ولاسيما نسائية. من أشهر رواياتها «ريبيكا» التي وضعت خيوطها وبدأت بكتابتها في مصر، حيث كانت تعيش مع زوجها الميجور تومي «بوي» براوننج، قائد الكتيبة الثانية، ضمن فرقة جرينادير في الجيش البريطاني، وكانت نقطة تمركزه في الإسكندرية. عاد الزوجان إلى بريطانيا عام 1937 لتصدر رواية «ريبيكا» في العام التالي، ويحولها المخرج العالمي ألفرد هيتشكوك إلى فيلم ناجح عام 1940 حصد 6 جوائز عالمية منها جائزتا أوسكار، بطولة لورانس أوليفيه وجوان فونتين. دو مورييه أزعجها كثيراً تصنيف الجمهور والنقاد روايتها بالرومانسية، إذ اعتبرتها «درساً في الغيرة». هيتشكوك اختار أيضاً رواية «الطيور» أو «بيردز» لمورييه ليقدمها بإحدى روائعه السينمائية عام 1963. نسخة أولى وجوائز جولدن وتسميات أوسكار صدرت رواية «قريبتي ريتشل» عام 1951، يوم كانت الروائية دافني دو مورييه في عز تألقها ونجاحها وثقتها بنفسها ككاتبة تجد إقبالاً كبيراً على شراء كتبها. وبعد عام واحد من صدور الرواية، قدمها المخرج هنري كوستر في فيلم بنفس الاسم، لاقى نجاحاً كبيراً، وتمت تسميته لأربع جوائز أوسكار، بينما فاز بجائزتي جولدن جلوب. الفيلم بالأسود والأبيض، أبدع فيه كل فريق العمل من المخرج إلى كاتب النسخة السينمائية نونالي جونسون، والأبطال أوليفيا دو هافيلاند وريتشارد بورتن وأودري دالتون، إضافة إلى الديكور والأزياء والتصوير.. وحقق ما لم يستطع تحقيقه الفيلم الحالي. marlynsalloum@gmail.com
مشاركة :