لا يكون استفتاء كردستان، وربما الاستقلال الذي سيليه دون شك، إلا إدانة صارخة لفساد الحكم الديني الطائفي في العراق، ونهجه الانتهازي الخياني المعيب، ووصمة عار على جبين المتباكين اليوم على وحدة الوطن وسيادته وهيبته وشرعيته.العرب إبراهيم الزبيدي [نُشر في 2017/09/29، العدد: 10766، ص(9)] في الدنيا العربية، ولا فخر، رؤساء جمهوريات ورؤساء وزارات وبرلمانات وأحزاب، وكثير من نواب وقادة عسكريين ورجال أعمال، وخطباء في مساجد وحسينيات، وأصحاب صحف وفضائيات، إن لم يكونوا موظفين رسميين في المخابرات الإسرائيلية (الموساد)، وموضوعين على سلم رواتبها الشهرية، فهم حلفاء وأصدقاء، ولكن مِن “تحت لتحت”. أما “مِن فوق لفوق” فهم أكثرُ الناس وطنية وغيرة وشهامة، وأشدهم عداوة مع الكيان الصهيوني الغاصب المحتل قاتل أطفال فلسطين الأبرياء ومدنس أرضها المقدسة، وأصلب المقاومين والصامدين، وأعنف المطالبين بتحرير الأرض من النهر إلى البحر، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف. وبالروح والدم نفديك يا فلسطين. ففي قناعتهم أن النجاسة في السياسة أسلم، وأوفر ربحا، وأكثر أمنا وسلامة، وأن الشطارة هي أن تأكل مع الذئب وتسرح مع القطيع. ولا مَن شاف ولا مَن درى. أما مسعود البارزاني فقد فعل العكس. لم يؤمن بقاعدة “إذا ابتليتم فاستتروا”، مفضلا عليها سياسة “وأما بنعمة ربك فحدث”. لم يكن يخاف، ولم يكن يستحِي من علاقته، ولا من علاقة أبيه من قبله، بإسرائيل، من أوائل الستينات وإلى اليوم. يقول للعرب “لكم مشاكلكم مع إسرائيل، أما نحن فليس لنا معها مشكلة”. وهنا لا بد لنا من الاعتراف بشجاعته وصراحته، فهو لم ينافق ولم يداهن ولم ينكر تلك العلاقة حتى وهو مقيم في قلعة الصمود والتصدي، دمشق، أيام الهرب الدائم من صدام طيلة الثمانينات والتسعينات، وحتى وهو رفيق نضال مع مخابرات الشقيقة إيران المجاهدة التي تتغنى دوما بمحو إسرائيل من الوجود. وإذا كان المواطن الكردي الكبير والصغير أكثر معرفة من العربي الكبير والصغير، بتلك العلاقة فإن من باب أولى أن يكون أول العارفين بتلك العلاقة هو النظام الإيراني وحرسه الثوري ووكلاؤه العراقيون الذين تحالفوا مع “كاكه” مسعود منذ العام 1990 في “لجنة العمل المشترك” في دمشق، ثم في مؤتمر بيروت 1990، ثم مؤتمر فيينا، ثم مؤتمرات نيويورك ولندن وصلاح الدين، حين كانوا دائما يفضلون معه الخلوة في الطوابق العليا من الفنادق التي يعقدون فيها مؤتمرات المعارضة العراقية، فيتخذون قراراتها، وحدهم، ويُنزِّلونها على الرعية كاللوح المحفوظ. وحين جاؤوا يدا بيد، مع الاحتلال الأميركي الإيراني للعراق، أفردت له الأحزاب الإسلامية، بوصاية من إيران، أو بتطنيش منه، مكانة أكبر بكثير جدا من أي عضو آخر في الجبهة الكردستانية، وأكثر جدا أيضا من السياسيين العرب السنة الذين تطلبت الطبخة الأميركية الإيرانية السيستانية إلحاقهم بمجلس الحكم، رفعا للعتب، ولتزيين القاعة التي أعدت للمتقين. حتى غدا، وفي عقر دارها، صاحب حوْل وطوْل، وصوْل وجوْل، في القضايا الكبيرة التي تصنع مصير الدولة العراقية، بدءا بمسألة حل الجيش وتشكيل الميليشيات وتفصيل الدستور، أو انتهاء بتصميم علم الدولة واختيار نشيدها الوطني. لقد كان بيضة القبان في اختيار رئيس للجمهورية ورئيس للوزراء ورئيس للبرلمان.صارت الدولة التي كان اسمها العـراق محـافظة من محافظات الجمهورية الإسلامية في إيران، يديرها ويتصرف بخراجها الحشد الشعبي ونوري المـالكي وإيـران، دون شريك وبرضى حلفائه الإسلاميين، وسرورهم، احتل وزارات سيادية مهمة، كالخارجية والمالية، ومقاعد نيابية وسفارات، ورئاسة أركان، ومنصب نائب رئيس الوزراء، ونائب رئيس البرلمان، ومراكز مهمة حساسة أخرى في المخابرات والدفاع والمالية والموارد المائية ووزارة النفط والدفاع والداخلية، وفي الإعلام وهيئة النزاهة المفوضية العليا للانتخابات والقضاء. كان هذا كله في الأرباع العربية الثلاثة من العراق. أما الربع الكردي المتبقي منه فقد تنازل له عنه حزب الدعوة ومجلس الحكيم ومقتدى وباقي أعضاء التحالف “الوطني” ملكيةً خاصة خالصة له ولأولاده من بعده، مغمضين عيونهم عما يفعل فيه بلا حساب ولا كتاب. فلم يطلب منه واحد من شركائه في المحاصصة حماية الحدود، ولا مشاركة رمزية في مراقبتها على الأقل، ولا إدارة مطارات الإقليم. لم يطلبوا منه معرفة ما يدخل في خزانته من موارد، ولا كيف تُنفق، ولا أين، وفوق كل ذلك كانوا يرسلون إليه الجزية، كل عام، سبعة عشر بالمئة من أي دولار يدخل خزينة العراق، بالإضافة إلى رواتب البيشمركة وسلاحها ولباسها وأكلها وشربها، ورواتب موظفي حكومة الحزب الديمقراطي الكردستاني أجمعين. لقد سكتوا عنه جميعا، كل هذه السنين، ولم يغضب أحد منه وهو يؤسس دولته المستقلة، ولا وهو يجيّش جيوشه الخاصة ويسلحها بسلاح الدولة وأمـوالها، ولا وهو يقضم القرى والمدن واحدة بعد واحدة ويطرد سكانها ويؤوي أعضاء حزبه مكانهم، ولا وهو يحتل آبار نفط كركوك ويطرد موظفيها العراقيين، ولا وهو يأمر بإنزال علم الدولة العراقية وبرفع علم كردستان مكانه على دوائر المملكة، ولا وهو يزور الدول العربية والأجنبية ويتحدث كرئيس لدولة مستقلة ذات سيادة. ويبرر تلك المداراة والمسامحة كثيرون بالقول إن الإسلاميين كانوا يحتاجون إلى سكوته وهم مشغولون بسحق أعدائهم السنة العرب والكلدان والآشوريين والإيزيديين، وتهجيرهم، والاستيلاء على أملاكهم وأموالهم. وتبعا لكل تلك الموبقات التي ارتكبها الإسلاميون، من عام 2003 وإلى اليوم، أصبح ما حدث في كردستان يوم الخامس والعشرين من سبتمبر ليس خيانة، كما يزعمون، ومسعود ليس خائنا. فمن يزرع الريح لا يحصد سوى العاصفة. فلو كان الحكم في العراق وطنيا سليما معافى، وشريفا نزيها وطنيا مخلصا يحترم نفسه وشعبه ووطنه لأوقف كل تجاوز على حرمة الوطن وهيبته وثرواته، ولضرب بيد من حديد على يد مسعود من أول جريمة، ومن البداية، تماما كما يفعل حكام الدول المحترمة في الدنيا الواسعة. وفي جميع المقاييس والمعايير لا يكون استفتاء كردستان، وربما الاستقلال الذي سيليه دون شك، إلا إدانة صارخة لفساد الحكم الديني الطائفي في العراق، ونهجه الانتهازي الخياني المعيب، ووصمة عار على جبين المتباكين اليوم على وحدة الوطن وسيادته وهيبته وشرعيته، ونهاية حقيقية لأكذوبة الشراكة والمحاصصة. وهو قبل ذلك، وبعده، لطمة قوية على وجه الولي الفقيه، وكسر مبينٌ لأنف القائد الذي لا يقهر، قاسم سليماني، ولجواسيسه حكام العراق الملوثين. من اليوم وصاعدا صارت الدولة التي كان اسمها العـراق محـافظة خالصة من محافظات الجمهورية الإسلامية في إيران، يملكها ويديرها ويتصرف بخراجها الحشد الشعبي ونوري المـالكي وعمار الحكيم وهادي العامري وأبومهدي المهندس وقيس الخزعلي وإيران، دون شـريك، بعد أن غـادرها الأكراد، وهجـرها العرب السنة، وطُرد منها الكلدان والآشوريون والأرمن والصابئة، وسوف يودعها التركمان عما قريب. آخر خبر، رئيس الوزراء حيدر العبادي أمهل حكومة الإقليم 72 ساعة لتسليم المطارات والمنافذ الحدودية إلى حكومة بغداد، لأن “منافذ كردستان تخضع لإشراف ورقابة هيئة المنافذ الحدودية”. فهل هذه نكتة من نكات حزب الدعوة وإخوته المجاهدين، أم رماد إسلامي مقدس يذرونه في العيون؟ كاتب عراقيإبراهيم الزبيدي
مشاركة :