الصوفي، بوصفه الشكل البدائي للأناركي الفرداني، كان يختار اعتزال العالم كفعل سياسي ضد النظام الاستبدادي، مقوضاً التنزيه المطلق لله عبر مبدأ التماثل، وبذلك مهاجماً الأساس الذي تقوم عليه الشريعة ككل. لم يطرح الصوفي أي خطاب عقلاني يحاور، كعادة الفلاسفة، الناس فيه؛ بل كان يتعمد على أن يبدو «مجنوناً» وأن يظهر بمظهر «الجنون» على أن يختار خطاباً «لا-عقلانياً». وماذا يعني أن تظهر بالجنون غير أنك، طواعية، تخرج خارج الخطاب العقلاني، أن تختار أن تكون مثلما يقول بودلير في قصيدته: «منتشياً أبداً،/ لتكن نشوتك ما تكون/ النبيذ، أو الشعر، أو الفضيلة،/ فليكن!/ المهم هو أن تبقى منتشياً!». أيمكن في كل الأحوال أن نقول إن عالمنا اليوم يخلو من هذه النزعة الدايونيسوسية التي يتحدث عنها بولدير؟ أن نصفه بعالم «الإنسان الأخير» كما تنبأ نيتشه؟ عالم يخلو منه كل ابداع، كل عملية خلاقة، من كل نشوة، عالم يعتقد أنه وصل إلى المرحلة القصوى من «السعادة»- السعادة النهائية، قطيع بلا راعٍ الكل فيه يتوق إلى التماثل والتماثل وحده، عالم يقود نفسه بنفسه، إرادياً، نحو مستشفى المجانين. قد يكون هذا الوصف صحيح للإنسان الحديث الذي لا يتوق إلا إلى «السموم التي تأتي على جرعات صغيرة»، من دون أية مخاطر أو إرادة قوية، إنسان راضٍ بحاله وبحياته كما هي. ليس غريباً أن هذا الإنسان هو نتاج لحالة من «عدمية سلبية» إزاء ما يمكننا أن نسميه اليوم بالـ: عدمية العلمية، والاكتشافات الفضائية الهائلة، والثورة (أو ثورات؟) التكنولوجية، والتغيرات المناخية، والاكتشافات الجينية الجديدة، إلخ. قد نتفق مع الدكتور الغذامي (وإن كانت للأسباب غير الأسباب التي صرح بها) في قوله بأن الإنسان اليوم هو خائف- بلا مأوى أو جماعة، يرى كل أحداث العالم في تلفازه لكن من دون أية قدرة فعالة على تغيير القرارات أو حتى المشاركة في اتخاذها. كل ذلك يلاحق «الإنسان الأخير» مثلما كان تشيب دوغلاس يلاحق، في فيلم (رجل الكابل)، البطل ستيفن بسبب هوسه الشديد به. ألن نكون أكثر دقة، وصدقاً، لو قلنا أن لا يوجد هناك «رجل الكابل»؟ إنّ «رجل الكابل» لم يكن سوى التلفاز نفسه، الثورة التقنية الحديثة، الذي يلاحق الإنسان بهوس كي يبقيه تحت قبضته ليحكم عليه بالحكم الأخير عبر واقع، كما يقول بودليار، مفرط في واقعيته؟ أتدفع، إذن، كل هذه الأمور الإنسان إلى أن يدخل طواعية إلى مستشفى المجانين؟ يجيب آرتو عن هذا السؤال، عبر فان غوخ، بالنفي، المجتمع الحديث بكليته وبمؤسساته هو الذي يدفعنا نحوه. المجتمع برمته يصبح هو هو مستشفى المجانين، بينما المصحات النفسية فيه، أو المؤسسات التي تطلق على نفسها «مستشفيات الطب النفسي» هي الغاية النهائية لكل عبقري أسيء فهمه، لكل عبقري أبصر طريقه بوضوح: (كلا لم يكن فان غوخ مجنوناً، ولكن لوحاته كانت قذائف إغريقية نارية، قنابل ذرية قادرة على، من بد كل اللوحات الموجودة آنذاك، استهداف وازعاج التقليد العام لبورجوازية الإمبراطورية الثانية (…) لم يقم فإن غوخ بمهاجمة تقليد معين بقدر ما هاجم المؤسسات القائمة). العقلانية بالنسبة إلى آرتو هي مقولة أيديولوجية، مقولة تتم مأسستها؛ ليس للعقل دال سوى الدال الأيديولوجي كفعل للتذويت: «يا هذا! أنت عاقل!» من هو الـ «هذا» ومن هو الذي يشير بأصبعه؟ المؤسسات برمتها، المؤسسات التي يستطيع أن نسميها بالبورجوازية، تخلق، وتعيد إنتاج، مفهوم «العقل» والـ «اللاعقل»؛ لهذا رأى داروين أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمكنه أن يجن. فان غوخ لم يجن بل «دفع إلى الجنون»، فان غوخ لم ينتحر بل «دفع إلى الانتحار»، فان غوخ لم يدخل إلى مستشفى المجانين، على عكس الإنسان الأخير- قوة فان غوخ تضاهي قوة الإنسان المتفوق، بل خرج منه نحو غرفة صغيرة يسميها الكل بـ «غرفة المجانين». فان غوخ لم يكن مجنوناً، أنه مجرد أقدم على حرق يده وبتر أذنه اليسرى. إنه يشكل، إذن، حدث، لا بمعنى أن جديد قد أتى، بل بنفحات النسيم آتية من كوكبٍ آخر.. بجديد قد يأتي. «القلق» و«الصرخة» التي عبر عنهما إدفارت مونك في لوحاته هما قلق وصرخة صدمة الحدث نفسه، مثلما هي صدمة المولود الجديد الذي يصرخ خوفاً، مثلما هي صدمة الحُب الذي يربك العاشق، الحدث، باختصار، يطرح لنفسه، ارتجاعياً، ظروف احتمالية وجوده. الصرخة (وبذلك الصدمة) والقلق هما ميكانزمتان لـ «انتظار» أو «الترقب» أو «التوقع». هيتشكوك عبر عن اللحظة الهيتشكوكية بمثل المنطق: «الخوف لا يكمن في الضربة، بل في توقعها». الحدث هو هو «الترقب» بذلك لا يعبر سوى عن القلق؛ القلق من صرخة الصدمة. هو ليس سوى ربكة اعادة التنظيم أو التشكيل، تذكر المستقبل في لحظة التكرار. هذا ما كانت تعانيه المرأة اليائسة في مونودراما «إيرفاتونغ» لشونبرغ في انتظارها لحبيبها في الغابة، تحوم في كل الأرجاء في حالة من قلق.. وكلما تبحث أكثر يزيد قلقها، إلى أن تصل إلى اللحظة المفجعة! ها هي جثة حبيبها مستلقية على الأرض! ترجوه بغضب أن يرجع إلى الحياة وأن يكلمها مرة أخرى لكن من دون جدوى، وفي النهاية تمشي وحدها بيأس في وسط الظلام. الآن، يمكننا أن ندخل إلى التحليل النفسي ونستعرض العملية التكرارية للمرأة الهستيرية التي تعيش مثل الحدث مراراً وتكراراً، حيث يكون التكرار بالنسبة لها ليس سوى فعل «الترقب“ (ايرفاتونغ) يضع لنفسه احتمالية وجوده كـ«ترقب» على شاكلة المريض النفسي في فيلم (جزر شاتر) الذي يعيش التكرار عبر قلق، وهلاوس، الترقب. لكن ألم يكن ذلك «ترقب» شنوبرغ أيضاً؟ ليس ترقبه للموت في سريره خوفاً من الرقم 13 في جمعة الثالث عشر من يوليو في السن السادس والسبعين (7+6 = 13) وحسب، بل أيضاً في «الترقب» الذي يحفزه في حدثه، أيّ في حدثيته، الذي تتليه «صرخة» الجمهور الذي لم يتحمل كسر التقليد العريق للموسيقى الكلاسيكية في آخر حركتين من الرباعية الوترية الثانية عبر ادخال مغنية سوبرانو مع الآلات الأخرى كإعلان انفصاله عن، مثلما انفصل عن زوجته في مثل السنة، النغمية الهارمونية. حالما لفظت مغنية السوبرانو الكلمات التالية: «أشعرُ بنفحات النسيم آتية من كوكبٍ آخر» طالب الجمهور بإسكاتها، معلناً: «أكتفينا من هذه الموسيقى!». كان شونبرغ أيضاً يشعر بهذه النفحات في الرباعية التي مهدت، كحدث، حدثية اللانغمية في أوروبا، بالتزامن مع نظرية آينشتاين النسبية، والتحليل النفسي الفرويدي، والحداثة الكافكوية. بعد هذا الحدث، ليس لشونبرغ المسكين أي مكان آخر أن يتجه إليه سوى: (مستشفى الطب النفسي) كما قال عنه ريكارد شتروس.
مشاركة :