القاهرة: «الخليج» يعتبر الكاتب السويدي «أوجست سترندبرج»، رائداً من رواد الفكر وزعيماً من زعماء مدارس المسرح الأوروبي في القرن التاسع عشر، وقد عاصر المشاهير: «إبسن» النرويجي، و«زولان» الفرنسي، و«نيتشه» الألماني و«شو» و«وايلد» الإيرلنديين، وقامت بينه وبين بعضهم مكاتبات ومراسلات أدبية وفنية أصبحت فيما بعد، أُسُساً ومناهج لأفكار هؤلاء العباقرة الذين أثروا الإنسانية بتراثهم. يشار إلى «سترندبرج» عندما تثار مشكلة الكتابة وتأثرها بحياة الكاتب وبشخصيته، كما يأتي ذكره عند دراسة العلاقة الإيجابية بين العبقرية والجنون، فقد كادت كتاباته أن تكون تعبيراً عن حياته ومخرجاً من مكبوتاته الوجدانية، ومتنفساً لعقده في اللاوعي، وأسلوباً للهروب منها أو التغلب على آلامه في حياته، سواء كان هو سببها أو كانت للظروف الاجتماعية ولمزاجه النفسي ولتكوينه السيكولوجي آثارها العميقة في هذه الآلام والمصائب.كان «سترندبرج» من القلائل الذين يدفعهم الهوس إلى الإبداع الفني، ما يدفع البعض إلى الربط بين العبقرية والجنون، فقد أفرغ سم غيرته وحقده على زوجته أدباً وفناً في مسرحيته الخالدة «الأب»، وفي سنة 1888 ظهرت إلى العالم مسرحيته «الآنسة جولي» ثمرة هذا الانهيار العصبي والعائلي كذلك، وفي سنة 1892 تم الطلاق بينه وبين زوجته، هو ابن الخادمة الذي أصبح كاتباً عبقرياً.وفي أوائل سنة 1893 قابل صحفية نمساوية شابة، كان عمره أربعاً وأربعين سنة، بينما كانت في العشرين من عمرها، وتزوجها لتكتب فيما بعد كتابها الأول «زواج من عبقري»، ثم يكتب هو الآخر قصته بالفرنسية بعنوان «اعترافات مجنون»، ويسجل فيها آلامه ومعاناته مع زوجته الأولى، وتشاجر مع زوجته الثانية، وتركها ليقيم في باريس وقد تدهورت صحته العقلية، كما جاء في كتابه «الجحيم»، وبعد سنتين من إصدار هذا الكتاب بدأ كتابة ثلاثيّته «الطريق إلى دمشق»، التي تكشف عن عبقرية درامية نادرة، فقد كتب 19 مسرحية فيما بين عامي 1898 و1903 وقد أسند دور شخصية «السيدة» في تلك الثلاثية المسرحية إلى «هارييت بس»، التي رآها مرة تمثل في إحدى مسرحيات شكسبير، وأعجب بها، وبعد ذلك كتب لها دوراً في مسرحية «عيد الفصح»، وانتهى الإعجاب بالزواج سنة 1901 كان عمرها آنذاك 32 سنة، فرضت عليه ذوقها وسلوكها، وكان متطرفاً في حبه لها، يغار عليها، وقد انتهى هذا الزواج بالطلاق سنة 1904، وكان يكتب مسرحيته «حلم»، وهو في حالة هلوسة، وكان في الستين من عمره عندما عرض على ممثلة أخرى الزواج، رغم أنه حذرها قائلاً: «فكري جيداً فيجب أن تكوني مستعدة تماماً، فستكون حياتك كأنك في دير للراهبات، سوف تقابلين قليلاً من الناس، بعض أصدقائي فقط من كبار السن».وأمضى سترندبرج آخر أيامه وحيداً، مريضاً، لا يقابل أحداً، حتى مات بالسرطان في مايو سنة 1912 وكانت حياته مليئة بالأمراض النفسية والعقلية، وكان أسلوبه مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بحياته، وما مر به من آلام، وما صادف من طفولة تعسة، تركت في نفسه آثاراً، لم تتمكن الأيام إلاّ من تعميق جذورها، حتى اختلطت عليه الأمور.وقد أسهم في المدارس الفنية المختلفة، فكتب بأسلوبه المدرسة الطبيعية مسرحيات مثل «الأب» و«الآنسة جولي» و«رقصة الموت»، كما استقى من التاريخ مادة درامية فكتب مسرحيات تاريخية، وأخرى خيالية، مثل «سوناتا الشبح»، و«حلم»، وفي هذا يرتد عن المذهب الطبيعي، كما كتب مسرحية الغرفة، وكان إسهامه في المدرسة الطبيعية تحت تأثير إميل زولا الذي قاد الحركة الطبيعية في المسرح في فرنسا، معلناً ثورته على الفن الرومانسي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.كان سترندبرج قد ترك الجامعة من دون أن يكمل تعليمه، وبدأ من هذه اللحظة يعاني اضطراباً في جهازه العصبي، دفعه إلى التفكير في الذهاب إلى مستشفى الأمراض العقلية، لكنه اشتغل بالصحافة وانتهى من كتابة مسرحيته التاريخية الأولى «السيد أولاف» سنة 1872، لكنه انقطع عنها وعمل في مكتب تلغراف، ثم مساعداً لأمين مكتبة، ولا يدل هذا على سعة وتشعب اهتماماته، بقدر ما يكشف عن قلقه وعدم وضوح الطريق للتعبير عن عبقريته.
مشاركة :