ما بعد استفتاء «كردستان»… تصاعد النوازع الانفصالية

  • 9/30/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

البارزاني يدلي بصوته في استفتاء استقلال كوردستان أنقرة – محمد عبد القادر خليل** قضايا الاندماج/ الانفصال داخل حدود الدولة القومية، أو بين الدول وبعضها بعضاً لم تعد تتأسس فحسب على المصالح البرغماتية والخبرات العملية المتراكمة، وإنما تتعلق بالأساس بالسياقات التاريخية والمحركات الثقافية. * التوجه التركي حيال التطورات في العراق لا يتعلق بارتداداتها المحتملة على أنقرة، بل بالحقوق التاريخية التي يمكن لتركيا أن تطالب بها. * في الوقت الذي تعارض فيه واشنطن الاستفتاء الكردي، على الصعيد الإعلامي، فإنها لا تزال صاحبة النفوذ الأكبر في الإقليم. * ترتبط واشنطن باتفاقات تجارية ضخمة مع الإقليم تم التعاقد عليها في تخطٍ واضح لسلطة الحكومة المركزية. * لم تبد روسيا أي رفض لإجراء الاستفتاء الكردي، فقد صرح لافروف، بأن روسيا مهتمة بتحقيق أهداف الشعب الكردي «في إطار الأعراف الدولية». أضحت ظاهرة التفكك وتصاعد النزعات الانفصالية، وتنامي التوجهات الانعزالية سمة رئيسية من سمات التفاعلات الدولية، بما بات يطرح تحديات جديدة وإشكاليات مغايرة عن تلك التي سادت عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث التوجه للتحالف وتشكيل الأطر التكاملية، والنظم الاندماجية المؤسسية. لم يقتصر ذلك على تجارب وحدوية تدرجية عابرة للحدود الوطنية اتسمت بنجاح نسبي كحالة الاتحاد الأوروبي، وذلك بعد البريكست (Brexit)، إثر الاستفتاء الشعبي لخروج بريطانيا من الاتحاد، وإنما قد طال ذلك في حالات كثيرة بنية الدولة القومية ذاتها. فقد شهدت المنطقة العربية انقسام الدولة السودانية، وإعلان دولة جنوب السودان في عام 2011، كما يواجه إقليم الشرق الأوسط في المرحلة الراهنة تحديات أكثر حدة وتعقيداً، وذلك بعد تصويت مواطني إقليم شمال العراق بالموافقة على إعلان الانفصال عن الدولة العراقية. وبينما تشكل التراكمات التاريخية، والانقسامات العرقية، والصراعات الطائفية، والتمركزات المناطقية للسكان دافعاً رئيسياً لبروز ظواهر النزوع للانفصال، كتجسيد للتطلع للإدارة الذاتية، أو الرغبة في الحكم الذاتي، أو إعلان الانفصال التام. فإن ارتدادات ذلك باتت تطرح تداعيات دراماتيكية، ليس وحسب على بنية ووحدة الدول التي تعاني من تصاعد مظاهر الانقسام ونوازع التفتت، وإنما كذلك على دول الجوار الجغرافي، تأسيساً على أثر ما يطلق عليه في العلوم السياسية «نظرية البيوت الخشبية». وتبدو حالة إقليم كردستان العراق نموذجاً في هذا السياق. ذلك أن الأكراد يشكلون القومية الرابعة في منطقة الشرق الأوسط، بعد العرب والترك والفرس، ويتوزعون على نحو أربع دول رئيسية، تتمثل في كل من العراق، وتركيا، وسوريا، وإيران. ويشكل الأكراد، بحسب اتجاهات رائجة، نحو 20 في المائة من سكان تركيا، وما يقرب من 18 إلى 20 في المائة من مواطني العراق، و9 إلى 10 في المائة من مواطني سوريا، ونحو 7 في المائة من السكان في إيران، ويقدر العدد الإجمالي للمجموعات الكردية في الدول الأربع ما بين 30 و34 مليون نسمة. ومن ثم، فالتوجه للاستقلال عن الدولة العراقية، قد يفضي إلى تطلع مماثل لمواطني دول الجوار الجغرافي لاستنساخ الاستراتيجية ذاتها، والتي تتلخص في المطالبة بالإدارة الذاتية، ثم تبني، في لحظة طارئة، الدعوة لاستفتاء من جانب واحد للانفصال عن الدولة المركزية، انتهاجاً لما يطلق عليه في الأدبيات «اقتراب الفرصة».عدوى التفكك… ظاهرة عالمية إن حالة «العدوى»، أو التمدد، أو استنساخ تجربة الاستقلال غدت سمة سائدة تعكس التوجهات الانفصالية، والسياسات الانعزالية. وقد واجه الكثير من أقاليم العالم تحولات دراماتيكية تفاعلت فيها ظاهرة «أحجار الدومينو»، بسبب تضاعف أثر الحركات والأحزاب الاستقلالية، والتي لا تنفصل في محركاتها عن نمط التحولات البنيوية التي شهدها النظام الدولي، وبالتبعية الكثير من النظم الفرعية. ففي سبتمبر (أيلول) عام 2014، كادت اسكوتلندا أن تستقل عن بريطانيا، لكنّ الأسكوتلنديين رفضوا الاستقلال في استفتاء بنسبة 55 في المائة، مقابل تأييد 45 في المائة. وفي 23 يونيو (حزيران) 2016، والذي شهد الإعلان عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أعادت، نيكولا ستورجن، رئيسة وزراء اسكوتلندا، قضية الاستقلال، من أجل البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي، وهي قضية باتت لدى البعض، في المرحلة الراهنة، أكثر إلحاحاً لأسباب سياسية واقتصادية متنوعة. هذا فيما تطرح قطاعات في آيرلندا الشمالية رؤى مشابهة، وكذلك الأمر بالنسبة لإقليم كتالونيا في إسبانيا، وذلك بعد أن أقر برلمان كتالونيا، في 23 يناير (كانون الثاني) 2013، وثيقة الاستقلال بأغلبية 85 صوتاً مقابل 41 صوتاً، ولا تزال مطالب سلطات الإقليم – الذي يمثل ما يطلق عليه الشعب الكتالوني، ويتحدث الكتالونية، والتي تُعتبر اللغة الرسمية بالإضافة إلى اللغة الإسبانية – تتمثل في إجراء استفتاء من أجل الانفصال. وقد هدد رئيس حكومة إقليم كتالونيا، كارلوس بوتشديمون، باحتمال الانفصال عن إسبانيا من جانب واحد، مؤكداً على التوجه لإجراء استفتاء في أكتوبر (تشرين الأول) 2017. هذا في وقت انضم فيه إقليم الباسك لإقليم كتالونيا من أجل تحقيق الاستقلال عن إسبانيا أيضا، حيث تظاهر، في 17 سبتمبر (أيلول) 2017، الآلاف من المواطنين تأييدا للاستفتاء، الذي يعتزم الانفصاليون في إقليم كتالونيا تنظيمه، على الرغم من الحظر الذي فرضته المحكمة الدستورية الإسبانية على إجرائه. ورفع المتظاهرون في بيلباو علم انفصاليي كتالونيا بألوانه الأحمر والأبيض والأصفر، إضافة إلى علم انفصاليى الباسك بألوانه الأحمر والأبيض والأخضر. وتشكل هذه التحولات أحد أكبر التحديات التي تجابهها الكثير من البلدان الأوروبية في المرحلة الراهنة، بما يمثل مؤشراً على تصاعد «روح الانفصال»، والرغبة في تشييد جدران العزلة، وذلك في تطور يسود الكثير من دول الشرق الأوسط أيضاً التي تواجه بدورها مواقف مماثلة تكشف عن أن قضايا الاندماج/ الانفصال داخل حدود الدولة القومية، أو بين الدول وبعضها بعضاً لم تعد تتأسس فحسب على المصالح البرغماتية والخبرات العملية المتراكمة، وإنما تتعلق بالأساس بالسياقات التاريخية والمحركات الثقافية.الشرق الأوسط… ما بعد استفتاء أكراد العراق تشهد منطقة الشرق الأوسط، حسب الكثير من التقديرات البحثية، مرحلة «خسوف الدولة»، بسبب سياسات التجزئة، وتفشي حالة التشظي والتفتت التي تجابهها بعض دول الإقليم، بما بات يثير تحديات مركزية في مرحلة تشهد إعادة رسم الخرائط، وصوغ الحدود على أسس عرقية وطائفية ومناطقية، وفق «حالة معدية» وقابلة للاستنساخ والتكرار، بما لا يجعل تداعياتها المحتملة وارتداداتها السلبية تقتصر على بنية الدولة التي تجابهها، وإنما تتمدد إلى ما وراء حدودها. وقد يعكس ذلك أسباب المواقف المتشددة التي تتبناها دول الجوار العراقي حيال استفتاء إقليم كردستان، تخوفاً من النتائج التي قد تترتب عليه، وهي مواقف تُعد مؤشراً محورياً على نمط القلق الإقليمي ومداه، الذي ينتاب الكثير من الدول بسبب ارتدادات التفكك العراقي المحتملة واتجاهاته، وذلك في ظل مساحات التماس الجغرافي، ونطاق التداخل الديموغرافي، وحجم التشابك التاريخي، ويبدو من ذلك أن القلق التركي والعراقي والإيراني من الاستفتاء الكردي يأتي في خلفيته إدراك أثر المحاكاة الذي سرعان ما بدا في حالة أكراد سوريا، وذلك في ظل محاولة استنساخ التطورات الحاصلة في شمال العراق، عبر الدعوة إلى إجراء انتخابات بالتزامن من أجل تأسيس مؤسسات الإدارة الذاتية، في خطوة استباقية لمقاربات الحل المحتملة في سوريا. وتشمل الانتخابات الكردية المحلية في سوريا ثلاثة أقاليم، وفق ما قُرر لها، تتمثل في إقليم الجزيرة، الذي يضم مدن وبلدات محافظة الحسكة، وإقليم الفرات، ويشمل مناطق تل أبيض وعين العرب وصرين، وإقليم عفرين بريف حلب الشمالي الغربي. وتنافس في هذه الانتخابات نحو 12421 مرشحاً على رئاسة 3732 مجلساً محلياً، لتجري الانتخابات على ثلاث مراحل، بدأت باختيار لجان محلية في 22 سبتمبر 2017، من المقرر أن تعقبها خطوات تؤدي إلى تأسيس مجلس تشريعي (مجلس الشعوب)، وهيئة تنفيذية في يناير 2018، لإدارة ثلاثة أقاليم، وست مقاطعات. وقد علقت الإدارة الكردية الذاتية، تكريساً للقومية الكردية في المناطق التي سوف تجرى فيها الانتخابات، لافتات كُتب عليها «مستقبل روج آفا بين يديك – لا تبخل بصوتك – صوتك أمانة امنحه لمن يستحق»… هذا الخطوات الكردية الاستقلالية تشير إلى أن حالة الانقسام العراقي باتت فعلياً تتمدد إلى ما وراء الحدود، بما يثير تحديات للكثير من دول منطقة الشرق الأوسط، كتلك التي باتت تواجهها هياكل حكم الكثير من الدول الغربية، بفعل تصاعد النزاعات الانفصالية والتوجهات الاستقلالية. استفتاء كردستان… بين سلطات الإقليم والحكومة المركزية تعددت التصريحات الإقليمية والدولية، ومن دون إسرائيل، لم تعلن أي من دول العالم قبولها الإجراء الكردي، حيث دعت أغلب الفواعل الرئيسية على مسرح العمليات الدولي إلى التريث وانتهاج الحوار من أجل حل الخلافات، وإنهاء التوترات بين الإقليم والحكومة العراقية، عبر الطرق الودية. بيد أن إصرار رئيس إقليم كردستان العراق على انتهاء العلاقة مع بغداد بلا عودة، أفضى إلى تصاعد حدة المواقف المحلية والإقليمية، لتعلن الحكومة العراقية برئاسة حيدر العبادي، رفضها التفاوض، انطلاقاً من نتائج الاستفتاء، بحسبانه مخالفاً لقرار المحكمة الاتحادية، ولكونه لم يأت على سند دستوري، ولا يعكس أكثر من محاولة رئيس الإقليم تجاوز مشكلات الإقليم وعثراته المالية. وفي هذا السياق، دعا نائب الرئيس العراقي، نوري المالكي، خلال استقباله دوغلاس ألن سليمان، سفير الولايات المتحدة الأميركية لدى العراق، إلى إلغاء إجراء الاستفتاء، قائلاً: «لن نسمح بقيام (إسرائيل ثانية) في شمال العراق»، محذراً من التداعيات الخطيرة التي سيخلفها هذا الاستفتاء على أمن وسيادة ووحدة العراق. وبينما تصاعدت حدة التصريحات، وتعددت التهديدات المبطنة بين رئيس الوزراء العراقي ورئيس إقليم كردستان العراق، عبر مؤتمرات صحافية، ولقاءات إعلامية بدت وكأن كلا منهما يقارع الآخر الحجة، فإن رئيس الوزراء العراقي طالب سلطات الإقليم بتسليم المطارات والمعابر الحدودية للحكومة المركزية. هذا فيما أصدر البرلمان العراقي جملة من القرارات المناهضة لسلطة إقليم كردستان العراق، منها مطالبة رئيس الوزراء العراقي بنشر قوات في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد منذ الاجتياح الأميركي للعراق عام 2003، وذلك «للحفاظ على وحدة العراق»، بحسب نص القرار. وقال القيادي في منظمة بدر كريم النوري: «وجهتنا القادمة ستكون كركوك، والمناطق المتنازع عليها المحتلة من قبل عصابات مسلحة خارجة عن القانون ولا تلتزم بأوامر القائد العام للقوات المسلحة»، في إشارة إلى قوات البشمركة. وتقع المناطق المتنازع عليها خارج المحافظات الشمالية الثلاث (أربيل، ودهوك، والسليمانية) التي تشكل الإقليم المستقل، وكانت محط نزاع بين بغداد وأربيل. وتضم هذه المناطق محافظة كركوك الغنية بالنفط، ومناطق متفرقة في محافظات نينوى، وديالى، وصلاح الدين شمالي البلاد، ومحافظة واسط في وسط البلاد. وفي هذا السياق، قال المتحدث باسم الحكومة العراقية، سعد الحديثي: «في حال حدوث أي صدام أو اشتباك في هذه المناطق، فإن القوات الاتحادية ستفرض القانون والنظام وتؤمن سلامة واستقرار المناطق والمواطنين». وكانت قوات البشمركة قد سيطرت على هذه المناطق خلال الفترة التي أعقبت سقوط النظام السابق، وإبان الهجوم الواسع الذي شنه تنظيم داعش في يونيو (حزيران) 2014، على الكثير من المدن العراقية.المواقف الإقليمية والدولية… سياسات متشابهة ومصالح متباينة أعلنت الفواعل الدولية والإقليمية الرئيسية على مسرح الشرق الأوسط رفضها للاستفتاء الكردي. وعلى الرغم من التشابه النسبي في المواقف وأنماط التصريحات التي دعت في مجملها إلى عدم إجراء الاستفتاء، أو تجاوز نتائجه للتفاوض بين سلطات الإقليم وحكومة العراق على «ورقة بيضاء» من دون شروط مسبقة، غير أن ذلك لم يخف تباين المصالح واختلاف المحركات. ففيما يخص الدولة التركية، اتخذت أنقرة مقاربة تقوم على رفض إجراء حكومة كردستان استفتاءً حول استقلال الإقليم، واعتبرت أن ذلك يمثل مخاطرة كبرى، تداعياتها لن تقتصر على الدولة العراقية، وإنما ستنسحب أيضاً على الدولة التركية، ومسار التفاعلات في المنطقة. وقد تحركت القيادة التركية في ثلاثة مسارات متوازية، تعلق أولها بالمستوى الدولي، حيث أعلن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، من الجمعية العامة للأمم المتحدة، رفض الاستفتاء الكردي، ثم وصف هذا الاستفتاء بأنه «عمل من أعمال الخيانة»، مهدداً أكراد العراق من أنهم «سيتضورون جوعاً»، عندما تمنع تركيا شاحناتها من عبور الحدود، مهدداً باتخاذ إجراءات عقابية إن استمر البناء على نتائجه. وقد توجه الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، بكلمة، ألقاها بمدينة إسطنبول، إلى الجانب الكردي، أكد فيها أنه في الوقت الراهن يُسمح بالعبور وحسب إلى الجانب العراقي عبر الحدود وبعد ذلك سيتم اتخاذ المزيد من الإجراءات وإغلاق المعابر كلياً، مضيفاً: «لنر كيف سيبيع الإقليم النفط بعد ذلك. المنبع لدينا وفور إغلاقنا إياه سينتهي هذا الأمر». ويأتي ذلك في ظل إجراءات مماثلة من قبل طهران وحكومة بغداد، بما يعني أن المعابر إلى إقليم كردستان العراق أغلقت من ثلاث جهات، ولم يتبق سوى «جار» واحد فحسب للإقليم يربطه بالعالم، ويتمثل في الحدود مع سوريا التي تمتد لنحو 120 كيلومترا، والتي يسيطر عليها حالياً حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، والذي أعلن تضامنه مع الإقليم، واستعداده للقتال للدفاع عن حدوده. وجاء المسار التصعيدي التركي الثاني، حيال الاستفتاء الكردي، عبر العمل على المستوى الإقليمي بالتنسيق مع حكومتي العراق وإيران. ففيما استقبلت هيئة الأركان التركية، رئيس الأركان الإيراني، اللواء محمد باقري، في أول تحرك خارجي على هذا المستوى، منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979، فعلى جانب آخر استقبل رئيس الأركان التركي، خلوصي آكار نظيره العراقي، الفريق أول عثمان الغانمي، وذلك للتباحث حول سبل التعاطي مع التحدي الكردي، استكمالا للمسار الدبلوماسي الذي تكلل بلقاء ثلاثي بين وزراء خارجية الدول الثلاث، على هامش اجتماعات الأمم المتحدة. وقد أجرى كل من العراق وتركيا مناورات عسكرية مشتركة، فيما أشارت بعض التقارير إلى أن طهران التي دشنت هي الأخرى مناورات عسكرية على حدودها مع العراق، قد تتجه إلى الانضمام إلى المناورات التركية – العراقية، وذلك بعد إعلان نتائج الاستفتاء، وإصرار حكومة كردستان على تبني إجراءات الانفصال عن الدولة العراقية. هذا فيما انعقد البرلمان التركي في جلسة استثنائية لتمديد عمل القوات التركية خلف الحدود السورية والعراقية، بالتزامن مع تصاعد الإشارات التركية بالاستعداد للقتال ضد الإقليم الكردي، لما يمثله من مشكلة ستطول وضعية الأكراد داخل تركيا. هذا بينما انعقد اجتماع مجلس الأمن القومي التركي، وصدر عنه بيان ختامي أكد على أن الاستفتاء الكردي غير دستوري. وأوضح البيان الختامي للمجلس «احتفاظ أنقرة بحقوقها في الدفاع عن مصالحها التاريخية، الواردة في اتفاقيات ثنائية ودولية، حال ما نظم الاستفتاء على الرغم من كل تحذيراتنا». لكن البيان لم يوضح طبيعة هذه الحقوق. بيد أن المتحدث باسم الحكومة، بكير بوزداغ، أشار في هذا السياق إلى احتفاظ أنقرة بحقوقها التاريخية المنبثقة من الاتفاقيات الثنائية والدولية، ولفت إلى أن هذه الاتفاقيات تنصرف إلى اتفاقيات «لوزان 1923»، و«أنقرة 1926»، و«الصداقة وحسن الجوار بين العراق وتركيا في عام 1946»، و«التعاون وأمن الحدود بين العراق وتركيا في 1983»، وهو الأمر ذاته الذي كان قد أكده أكثر من مسؤول تركي، وذلك في رسائل تركية متواصلة لإقليم كردستان والفاعلين الإقليميين والدوليين، ظاهرها أن تركيا ستتبنى كل التدابير لإحباط خطط الأكراد. غير أن مضمونها، إذا ما أُخذ في سياق التصريحات التي صدرت عن قيادات تركية طوال عقود سابقة بشأن حقوق تركيا في أراض عراقية، يكشف أن ثمة استعداداً تركياً لتحويل عبء الاستفتاء لفرصة، حال ما أفضى إلى انقسام الدولة العراقية. وقد استندت المقاربة التركية إلى عدد من المحركات الرئيسية عكست في جملتها طبيعة الموقف التركي، وجسدت طموحاً كبيرا ما عبر عنه الكثير من المسؤولين الأتراك، بدءاً من عدنان مندريس، مروراً بتوغورت أوزال وعبد الله غول، وأخيرا رجب طيب إردوغان. قامت هذه المقاربة على أن التوجه التركي حيال التطورات في العراق لا يتعلق بمحض تأثيراتها وارتداداتها المحتملة على أنقرة، وإنما يرتبط بالأساس بالحقوق التاريخية التي يمكن لتركيا أن تطالب بها، سيما فيما يخص مدينة الموصل وحقوق التركمان في مدينة كركوك. ولذلك، استعدت الحكومة التركية لكل الاحتمالات، التي قد ترتبط بتزايد مؤشرات التصعيد العراقي – الكردي، وما قد يترتب على ذلك من فوضى أمنية قد تستدعي التدخل العسكري، أخذا في الحسبان سياق المواقف الإيرانية التي باتت تتخذ موقفاً أكثر تشدداً، نظراً لوجود أقلية كردية في إيران، تبلغ – حسب بعض التقديرات – نحو 6 ملايين مواطن، وذلك على النحو الذي يدفع بمحاولة استنساخ التجربة العراقية في طهران، بما قد يعنيه ذلك من احتمالات التصعيد العسكري في مناطق تمركز الأكراد، وعلى نحو قد يطلق جماح طموح الأقليات الإيرانية الأخرى. كما يرتبط ذلك أيضاً بالتخوفات الإيرانية – التركية من إمكانية عزل الدولتين عن نطاق الجوار العربي، عبر «حزام جغرافي كردي». ويبدو الأمر يتسم بدرجة أعلى من التعقيد بالنسبة لإيران، في ظل أنماط العلاقات المحتملة بين الإقليم الشمالي وإسرائيل، التي أعلنت صراحة عن تأييدها لإنشاء دولة كردية في شمال العراق. وتخشى طهران كذلك مما تشكله دولة الأكراد من عائق أمام «خط الحرير الإيراني»، والذي يمتد عبر أراضيها إلى بغداد، ومنها إلى سوريا فلبنان. وعقب مطالبة الحكومة العراقية كردستان بتسليم كل المعابر الحدودية والمطارات إلى بغداد أعلنت طهران إغلاق مجالها الجوي أمام الرحلات الجوية المنطلقة من إقليم كردستان العراق، بالإضافة إلى إغلاق معابرها لأجل غير مسمى. كما يتأسس الموقف الإيراني على حسابات تتعلق بأنها تعد الطرف المهيمن على الدولة العراقية، وأن استقلال الإقليم قد يفضي إلى تصاعد النزعة الاستقلالية لدى الأقليات السنية في العراق لتنقسم الدولة العراقية إلى ثلاث دويلات على أسس عرقية وطائفية، وهو ما يهدد نفوذها وخطوط تمددها، ليس وحسب في العراق، وإنما قد يمتد ذلك لإقليم الشرق الأوسط برمته. وفي هذا السياق، اعتبر نائب رئيس لجنة الأمن القومي في مجلس الشورى الإيراني، كمال دهقان، أن إجراء الاستفتاء في إقليم كردستان «يتعارض مع القوانين الدولية»، مضيفاً في تصريح لوكالة «تسنيم» الإيرانية أنه إذا ما انفصلت المحافظات الكردية في العراق، فإن المناطق المتاخمة للإقليم مع إيران، وتركيا، والعراق «ستلحق بها تبعات أمنية واسعة». من جانبه، قال عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى، محمد جواد جمالي، إن استفتاء إقليم كردستان العراق «قد يؤدي إلى نتائج خطيرة كإضعاف الدول وقواها العسكرية، وبالتالي إزالة أي تهديد يواجه الكيان الصهيوني». على حد تعبيره، مضيفاً: «استفتاء إقليم كردستان العراق يحمل تبعات خطيرة على المنطقة، ليس أقلها تحريك باقي القوميات الموجودة في المنطقة من أجل المطالبة باستقلالها. وهذا ما ترفضه دول المنطقة، خصوصا إيران، وتركيا، والعراق». هذا فيما أعلن مساعد قائد مقر «خاتم الأنبياء» للدفاع الجوي الإيراني، في 26 سبتمبر 2017، عن نشر معدات صاروخية لتعزيز الدفاع الجوي في غرب البلاد للرد القاطع على أي محاولة اعتداء. وتعتبر تركيا أن التصعيد الإيراني – العراقي ضد أكراد العراق على المستوى العسكري قد يكون محتملاً في مرحلة من المراحل، بما يدفع أنقرة إلى الاستعداد بدورها لاستغلال تطورات الموقف لإعادة ما تعتبره على لسان مسؤوليها حقوقاً تاريخية لتركيا في الأراضي العراقية. ويبدو أن استخدام تركيا «دبلوماسية المدفعية» ذاتية الحركة، والتي تأتي على غرار «دبلوماسية البوارج» في القرنين الماضيين، ليس لإثارة تهديدات، وإنما لدفع الأطراف الأخرى نحو تصعيد تشير بعض التقديرات التركية إلى أن أنقرة لن تتورط فيه إلا بقدر ما يحقق مصالحها، كونها من ناحية تعي أن تشكيل دولة كردستان، مرتبط بالأساس بقرار دولي، وأن حكومة الإقليم لم تكن لتقدم على هذه الخطوة ما لم تكن قد أمنت بالفعل تأييدا مستتراً من قوى دولية رئيسية، كالولايات المتحدة وروسيا. ذلك أنه، في الوقت الذي تعارض فيه واشنطن الاستفتاء الكردي، على الصعيد الإعلامي، فإنها لا تزال صاحبة النفوذ الأكبر في الإقليم، كما تتمركز قواتها العسكرية داخل الإقليم، وتشير الكثير من وسائل الإعلام التركية إلى أن المخططات الأميركية بشأن تقسيم العراق تعود إلى سنوات ماضية، حيث مشروع نائب الرئيس الأميركي السابق، جو بايدن، بشأن تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات، والذي تم إقراره فعليا من قبل الكونغرس الأميركي. وثمة مصالح اقتصادية متداخلة بين حكومة الإقليم وجهات أميركية كثيرة، ويشار في هذا الإطار إلى بعض الأدوار التي اضطلعت بها شخصيات أميركية في الدفع باتجاه إجراء الاستفتاء، مثل بول مانافورت، مدير حملة الرئيس دونالد ترمب، في المرحلة الأولى من سباق الانتخابات الأميركية الأخير. وترتبط واشنطن باتفاقات تجارية ضخمة مع الإقليم تم التعاقد عليها في تخطٍ واضح لسلطة الحكومة المركزية، ومن بينها اتفاق «بي أكسون موبيل» في الفترة التي كان فيها ريكس تيلرسون، وزير الخارجية الأميركي الحالي، رئيساً تنفيذياً للشركة. وتقدر احتياطيات الإقليم من النفط بنحو 45 مليار برميل، ومن الغاز بنحو 5.66 تريليون متر مكعب، وهي احتياطيات مرشحة للتزايد مع استمرار عمليات التنقيب. وثمة توجه أميركي إلى تعزيز العلاقات مع الأكراد، سواء في العراق أو سوريا، فلا تزال التقارير تتوالى عن الشحنات العسكرية الأميركية إلى أكراد سوريا، بما يعني دعما غير مباشر لمشروعهم في شمالي سوريا والعراق. ويعد ذلك محركاً أساسياً للأتراك، وسبباً في مخاوف الإيرانيين، على النحو الذي يدفع الجانبين للعمل بتنسيق مشترك على صوغ مقاربة خاصة لإحباط التوجهات الأميركية، التي قد تأتي في مرحلة لاحقة على حساب حدودهما الجغرافية. ولا ينفصل الموقف التركي والإيراني في هذا السياق عن إدراك طبيعة الموقف الروسي، وذلك في ظل التقارب التركي – الإيراني – الروسي على صعيد التفاعلات المشتركة، وأيضاً تأسيساً على تحول روسيا إلى أكبر منافس لمصالح الدولتين في إقليم كردستان العراق. فبينما تقدر الاستثمارات التركية في الإقليم بنحو 40 مليار دولار، حسب بعض التقديرات – منها نحو مليار ونصف المليار في قطاع النفط، وتمتلك نحو 200 شركة في شمالي العراق تتبع القطاع الخاص التركي يعمل بها نحو 200 ألف عامل كردي – فإن روسيا تحولت منذ فبراير (شباط) 2017 إلى الممول الأكبر لصفقات النفط والغاز الكردي باستثمارات تقدر بنحو 4 مليارات دولار، وذلك في فترة لم تتعد عاماً واحداً. هذا في وقت لا يتجاوز ما يحصل عليه الإقليم من تركيا حدود الـ1.5 مليار دولار. ولم تبد روسيا في هذا الإطار أي رفض لإجراء الاستفتاء الكردي، فقد ذهب وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إلى أن روسيا مهتمة بتحقيق أهداف الشعب الكردي مثل أي شعب آخر على هذا الكوكب له آماله وطموحاته، وذلك في إطار الأعراف الدولية. وأوضح لافروف في يونيو 2017 أن موسكو لن تعارض الاستفتاء الكردي. جاء ذلك في مدينة سان بطرسبرغ، إثر اجتماع مع وفد كردي رسمي. وتعد شركة روزنفت الروسية أول شركة أجنبية كبرى تتعهد علانية بالتمويل المسبق للصادرات النفطية الكردية. وقد قال ميخائيل ليونتيف، المتحدث باسم روزنفت، إن «إجراء استفتاء لن يؤثر على أعمالنا في إقليم شبه مستقل ومعترف به بحكم القانون… هذا المكان تديره دولة كردستان العراقية، ونحن لا نعتقد أننا بصدد الشروع في مغامرة». هذه المعطيات تكشف أن ثمة تشابهاً في المواقف المعلنة من قبل بعض الأطراف والقوى حيال التحرك الكردي، غير أن ثمة تفاصيل تكشف أن مسعود بارزاني أسس موقفه من الاستفتاء على إدراك وجود دعم غير معلن من واشنطن وشبه معلن من روسيا. هذا في وقت يوجد فيه تناقض فعلي في المصالح بين إيران وتركيا لأسباب مختلفة، فتركيا لديها مصلحة في ترسيخ الوجود العسكري في العراق، سعيا لانتزاع ما تعتبره «حقوقاً تاريخية»، وخوفاً في الوقت نفسه من تداعيات الاستفتاء الكردي على الساحة المحلية التركية، هذا بينما يعكس السلوك الإيراني مدى القلق من أن يمثل هذا الاستفتاء خطوة نحو تعزيز الصراع والتوتر في الداخل الإيراني. ولذلك، فإن سياستها تأتي انطلاقاً من استراتيجيات الدفاع عن الذات، سيما أنه جاء في وقت تتصاعد فيه نذر المواجهة مع الغرب، بسبب رغبة إدارة ترامب في تعديل بنود الاتفاق النووي، ومسعى الكثير من القوى الكبرى إلى تشديد الرقابة على برامج إيران للتسلح، بعد تجاربها الصاروخية الأخيرة. * رئيس تحرير «شؤون تركية» بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

مشاركة :