في مدينة فلورنسا الإيطالية جلس طبيب أمريكي ينتظر ولاده ابنه في ذلك اليوم من عام 1856، ها هو يطلق صراخه الأول في الدنيا والأب يدون اسمه في السجلات الرسمية، جون، سيكون اسمه جون، وسيحمل لقب العائلة سارجنت، سيكون اسمه جون سينجر سارجنت، اسم لن ينساه تاريخ الفن أبدًا. نشأ جون في إيطاليا، ودرس الرسم هناك، قبل أن ينتقل إلى فرنسا، ليكمل دراسته الفنية، كما يروي الموقع الرسمي لأعماله الفنية، لكنه لم يكن مجرد طالب ضمن الطلاب الكثر الذين يرون في أنفسهم رسامين عظماء، بل كان بالفعل في الطريق ليصبح أحد هؤلاء، «مدام جوترو» كانت البداية، تلك اللوحة التي أحدث ضجة في صالون باريس، عام 1884، فقط وهو في عمر الـ28، إلا أن الضجة سرعان ما تحولت لهجوم، بل لفضيحة، فاللوحة التي عرضت حينها باسم «مدام إكس»، كانت بالنسبة للعامة مثيرة بشكل مستفز، لتدفعه عاصفة الهجوم عليه خارج بلاد نابليون، ويحط رحاله في بلاد الإنجليز، هنا سيصبح الأفضل على الإطلاق، هنا سيكون الرقم واحد، وهنا سيكون الرسام الأبرز للصور الشخصية. مدام جوترو رجل الأعمال والسياسي البارز جوزيف تشامبرلين، والسير فرانك سويتنهام، والمؤلف التاريخي مؤسس مدرسة الواقعية في الأدب الخيالي هنري جيمس، جمعيهم وقفوا أمام ريشة «سارجنت»، الأخير تحديدًا وصف أعماله بالخارقة، وقال إن موهبته ليس لديها المزيد لتتعلمه، وربما حينها قد شعر «سارجنت» أنه يقدم أعمال رائعة، إلا أنه ربما لم يدرك أن أهم أعماله كانت لا تزال تنتظره في صورة امرأة مغمورة في بلاد النيل، في مصر، اسمها غير معروف ولن يعرف أبدًا، سبتقى دائمًا وإلى الأبد مجرد «فتاة مصرية عارية». في سنواته اللاحقة لعمله في إنجلترا استطاع أن يعود ليعرض أعماله في باريس، في الصالون ذاته الذي اتهمه يومًا بالتجاوز، وعشق الرجل رسم المرأة، مدام إدوارد باليرون، مدام رامون سوبركاسو، السيدة ذات الوردة، كلها أعمال قدمها في صالون باريس، وحتى نهاية حياته اعتبرته لندن أعظم رساميها، وتقاضى على بعض لوحاته مبالغ وصلت لـ50 ألف دولار، كما تروي مجلة «لايف» الأمريكية، وأثناء عمله في لندن سافر إلى الولايات المتحدة وشارك في الرسوم الديكورية لمكتبة بوستن، المكتبة ذاتها التي أرسلته عام 1890 إلى مصر لإجراء بحث على الجداريات والرسوم الزيتية، وهناك كان على موعد مع أحد أعظم أعماله إن لم تكن أعظمها على الإطلاق. في مصر، وأثناء عمله على بحثه، كان الفراغ أحيانًا ممل، ما جعل صاحب الـ34 عامًا حينها يستأجر عارضة مصرية لرسمها، عارضة لم تدرك حينها أنها ستكون أحد أهم النساء اللاتي رسمن في تاريخ الفن، حينها خلعت عنها ملابسها، ووقفت معطية ظهرها لـ«سارجنت»، مقدمة قدمها اليسرى بضعة سنتيمترات إلى الأمام مستديرة بخصرها لليسار، تلامس يداها شعرها المسدل على صدرها، لا تنظر عيناها إلى الخلف بل تبدو مغلقة أو ربما تنظر سارحة إلى خصيلاتها، وفي الخلفية كان الخيال والتظليل عامل قوي أضاف للوحة لمحة من الجمال والعمق معًا، يثير في الناظر تساؤلات، من هذه الفتاة؟ ماذا وراءها؟ ما قصتها وكيف كانت حياتها؟ أسئلة لا إجابة لها مطلقًا، أسئلة ستبقى لكل يجيب عليها كما يوحي له خياله، أما هو «سارجنت» فاكتفى بوصفها بعبارة بسيطة، هي مجرد «فتاة مصرية». وفي مصر لم يكتفي الرسام العالمي بهذه الفتاة فقط، بل رسم امرأة أخرى بحجابها، ربما لم تجذب صورتها الانتباه بنفس القدر الذي فعلته الفتاة العارية، إلا أنه وضح إعجابه بهذه المرأة بشدة، فرسمها مرتين، مرة وهي ترتدي الحجاب الأسود وعباءة سوداء، تنظر إليه بنظرة تحمل الكثير الحكايات التي لم تروى، نظرة بها ملامح من الألم ربما والهم وأطلق على لوحته اسم «امرأة مصرية»، قبل أن يرسمها مجددًا، هذه المرة بشكل مختلف قليلًا، مغطاة الرأس بطرحة لكنها تكشف هذه المرة عن عنقها، وترتدي عقدًا وحلقًا، وكان الأخير هو محل اهتمام وتركيز الرسام، فأطلق على لوحته اسم «امرأة مصرية بحلق». اللوحات المصرية الثلاث تتصدرهم لوحة «الفتاة المصرية العارية» في السعر حاليًا، فتكلفة اللوحة على الموقع الذي يحمل اسم الفنان نفسه ويبيع نسخ من لوحاته يصل إلى قرابة 110 ألاف جنيه مصري، أما لوحة «امرأة مصرية» فيصل ثمن النسخة منها إلى 20 ألف جنيهًا، وهو نفس سعر نسخة لوحة «امرأة مصري بحلق». وتقبع اللوحة الأصلية لـ«فتاة مصرية عارية» حاليًا في معهد شيكاغو الفني في الولايات المتحدة، ويعود تاريخها إلى عام 1891، ويبلغ طولها 190.5 سم، وعرضها 61 سم، وهي مرسومة بالزيت.
مشاركة :