النقد الأدبي في قبضة الإيديولوجيا

  • 10/2/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

محمد الأسعدفي البداية، وحين بدأتُ بقراءة كتاب «جماليات التجاور أو تشابك الفضاءات الإبداعية» لكمال أبو ديب المقيم في بريطانيا، لم أتوقف طويلاً عند ما سماها «اكتشافاته» لجماليات التجاور والتشظي والبنية المفتوحة في المجال الأدبي؛ لأن هذه «الاكتشافات» لم تكن غير ترجمة وتحوير لمفاهيم شائعة في النقد الغربي، ومن لديه إطلاع على تيارات النقد الأدبي والفني الغربية لا تبهره هذه «الاكتشافات»؛ لكن ما إن واصلت القراءة حتى وجدت ما يجب الوقوف عنده، والتساؤل عن مغزاه، ويتمثل في الانتقال من الفضاء الأدبي إلى فضاء الجغرافية/ السياسية، في محاولة عجيبة لتمجيد تشظي الكينونات السياسية على غرار تمجيد تقانة التشظي في الكينونات الأدبية والفنية، بمنطق أن ماهو «جميل» و«إبداعي» في هذه الأخيرة، سيكون كذلك في الأولى. يقيم أبو ديب وينشئ أفكاراً جغرافية/‏ سياسية على أساس «اكتشافه» لجماليات التجاور والتشظي والبنية المفتوحة في المجال الأدبي. الافتعال واضح في هذا الرحيل من الأدبي إلى السياسي؛ لكن قبل أن أصل إلى هذه النقلة، أو القفزة العجيبة التي ذكرتني بقفزة «هانومان» في ملحمة الرامايانا الهندية من الشاطئ الهندي إلى جزيرة سيلان، أبدأ بهذه «المكتشفات»: ما يسمى التزامن في قصيدة النثر عند سوزان برنار، وما أطلق عليه أزرا باوند «تركيب صورة من فكر وعاطفة في لحظة زمنية تجعل القارئ يتحرر من المكان والزمان» (المنطق الفضائي) وما دعاه وشرحه أمبرتو إيكو تحت عنوان «النص المفتوح»، وما ابتكره السينمائي إيزنشتاين بتقطيع اللقطات والمجاورة بينها (المونتاج).. وأفكار أخرى، لا يكتفي أبو ديب بانتحالها؛ بل يترجمها ويشوه مقاصد أصحابها. فاللحظة الزمنية يحولها إلى «البرهة»، والتزامن يطلق عليه «التجاور»، والنص المفتوح يسميه «البنية المفتوحة»، وتقطيع اللقطات وإعادة تركيبها (المونتاج) يسميه التشظية. كل هذا ليس خطراً، ويمكن كشفه بسهولة في المجال الأدبي، وإعطاؤه صفته الدقيقة واللائقة به؛ «طبخة الشحاذين»، أي حصيلة كيس الشحاذ؛ الذي يطرق الأبواب، ويأخذ من سكان كل بيت نوعاً من طبخهم ويضعه في كيسه مختلطاً؛ لكن المثير للعجب والاستغراب أنه يأخذ هذه الطبخة بعد أن تختلط فيها أصناف الطعام، وتصبح بلا طعم، ويجعلها أساساً للدعوة إلى تمزيق نسيج المجتمعات العربية، وتقطيعها، إلى قطع طائفية وعرقية ومذهبية؛ لتكون «متجاورة» بدل أن تكون موحدة. بعد أن يكثر من هجاء الوحدة، في النص الأدبي وفي السياسة وفي كل شيء، ويمجد التشظية؛ ليولد ما يسميه «جماليات التجاور» على الخرائط أيضاً. يكتب، مترجماً القول بالتزامن واللحظية وعدم التعاقب في النص الشعري، عن «انهيار العضوية والنمو العضوي وانهيار التاريخ وحدوث قطيعة.. ولا تعود الذات الآن تعبر عن وعي التاريخ، أو هوس به أو حتى انشغال به، وحين يبرز الزمن مكوناً تجريبياً فإنه ليس الزمن- التاريخ؛ بل زمن الماضي الشخصي الفردي للذات». والشعر كما يقول «خارج فضاء التاريخ أو ملغياً له».. ليصل إلى أن «انهيار الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا يمثل المفصل التاريخي الذي اكتسبت عنده جماليات التجاور لحظة انبثاقها الجلي بجماليات جديدة تبشر بتكوين عالمي جديد».في أي عالم يعيش هذا الناقد، الذي يعد تفتيت دول وإبادة بشر وتشريد شعوب بهجمات الحلف الأطلسي خلقاً لجماليات تجاور؛ بل ويبشر مبتهجاً كما هو واضح بتكوين عالمي جديد؟ وها هو تجليه الأعظم بكلماته: «إذ نتأمل الأطروحة التي قدمتها في هذا البحث ندرك أن انقلاباً جذرياً يطرأ على الشعر والثقافة والمجتمع والحياة، فانهيار جماليات الوحدة يعبر عن نفسه شعرياً في بزوغ جماليات التجاور، وانهيار جماليات الوحدة يتجسد أيضاً في انهيار مفهوم الوحدة وبزوغ الدعوات إلى التخلي عن الفكر الانصهاري والاعتراف بتعددية الأعراق واللغات والديانات والمذاهب والعقائد، والإقرار بحضورها في فضاء ما ( تجنب أن يقول «فضاء واحد» ذكاء منه؛ لأن ذلك سيمثل اعترافاً منه بوحدة الفضاء! الملعونة في نظره!)، بالقدر نفسه من المشروعية لكل منها في وجود تتجاور فيه ولا يسعى أي منها إلى صهر الآخر والآخرين فيه. ولقد امتد هذا الاتجاه حتى بدأ يشمل الأعداء التاريخيين، وبشكل محدد «إسرائيل» التي لم يعد أحد يدعو إلى صهرها مع غيرها في دولة واحدة ديموقراطية؛ بل غدا ذروة ما يصبو إليه الناس أن تقبل هي بفكرة الوجود التجاوري للعناصر المتباينة المتعارضة في فضاء العالم». ونقرأ في (ص 95/‏96) من الكتاب ما يقوله عن جماليات هذا التجاور:«هل يعني ذلك عربياً أننا نعود إلى عصر التجاور مثل العصر الجاهلي، بعد أن سعى الإسلام إلى صهر كل شيء في بوتقة واحدة؟ يبدو لي أن الأمر كذلك. النموذج الذي قدمه الإسلام للوحدة الانصهارية استنفد تاريخياً.. ومحاولات ابتعاثه في شكله الديني أخفقت.. وأخفق القومي العربي والمشاريع القومية المحلية.. هناك ميل جديد إلى الاعتراف بحق الأكراد في تكوين دولتهم، وإقرار أوسع بحق البربر في اكتساب استقلالية حقيقية، وتقبل أكبر لحق الشيعة في مكان، في وجود غير منصهر في السنة، ووجود السنيين في حياة متميزة؛ لذلك انهار الفكر الماركسي الذي يدعو إلى صهر المجتمع.. وانهارت الدعوة إلى الدولة القومية العربية التي تنصهر فيها الأصول العرقية الأخرى، ونشأت فكرة المجموعات التجاورية، التي تتألف هي بدورها من كيانات تترابط تجاورياً ولا تطمح إلى الوحدة الانصهارية الكلية».هذا الناقد، كما انتحل مصطلحات أدبية، ينتحل هنا أيضاً مصطلحات سياسية، ويمنحها أثواباً من عنده، فتصبح «نهاية التاريخ» لدى فوكوياما «انهياراً للتاريخ»، ويصبح «صدام الحضارات» لدى هنتنغتون ميلا نحو فكرة المجموعات التجاورية، ويصبح «الشرق الأوسط الجديد» المشظى إلى كيانات عرقية ومذهبية وطائفية متصارعة إلى يوم القيامة، كما تخيلها المستعمرون الغربيون، اعترافاً وإقراراً وتقبلاً لحق الكيانات المذهبية والعرقية في وجود خاص؛ لتتجاور وتبرز جماليات التجاور. انطباعي أن هذه البضاعة هي التي توفر الحظوة والرعاية لمن ينشرها ويعممها في بريطانيا وغيرها، ويبدو لي أن دوافع كل هذا الجهد التنظيري بكل نقلاته من الأدبي إلى السياسي، من النصوص الشعرية إلى الجغرافية الأرضية، وبكل العناصر، ما تنافر منها وما توالف، التي يجتهد في تجميعها من هذه المأدبة أو تلك، تحتاج إلى استقصاء نفسي/‏اجتماعي وليس ثقافياً فقط، لمعرفة دوافع ناقد بدأ بالأدب وانتهى إلى أطروحة عجيبة مثل هذه، منطلقها مفاهيم أدبية يأخذها صاحبها في جولة ليصل بها إلى تمجيد تمزيق أوطان وشعوب.ويأتي بعد كل هذا تمجيده لنصوص شعرية تحاكي غالبيتها وتقلد ما نشره الدادائيون الأوروبيون في عشرينات القرن الماضي، وما اخترعه السيرياليون بعدهم بقليل. وهؤلاء الأخيرون، أفراداً وجماعات، سطوا لحسابهم الخاص على أفكار الطاو الصيني، وبوذية الزن اليابانية، وكتب الفيدا الهندية، فانتحلوها وقدموها مشوهة لقراء انبهروا بها؛ لأنهم يجهلون منابعها. مثلما حدث في الوطن العربي من سطو على أفكار نقدية جميلة لباوند وإليوت وإيكو وسارة برنار وإيزنشتاين.. إلخ، وتمت ترجمتها في أحسن الأحوال، أو تشويهها وانتحالها في أسوأ الأحوال، ونقلها من مجال إلى آخر بمجانية مطلقة.

مشاركة :