في كتابه الرائع «مذكراتي في السياسة والثقافة» يفرد المثقف المصري الكبير ووزير الثقافة في مصر في حقبة العصر الذهبي للثقافة في هذا البلد، صفحات كثيرة للشؤون الثقافية ويتوقف مطولاً عند ذلك التعاون الثقافي الكبير والمثمر الذي جمع بين القاهرة وباريس في عصر الرئيسين جمال عبد الناصر وشارل ديغول. بيد أن الغريب في الأمر هو أن الراحل ثروت عكاشة الذي يبدو دائماً على صواب في معظم أحكامه السياسية وبالغ الدقة في رصده للأحداث والمعلومات، يكاد يبدو ظالماً بعض الشيء لدى حديثه عن إسهامات أندريه مالرو في بناء صرح ذلك التعاون، بخاصة حين يتعلق الأمر بحديثه عن ذلك المعرض الضخم والاستثنائي عن الفرعون الذي قضى شاباً توت عنخ آمون ومكتشفات متعلقة به كانت عثرت عليها بعثة إنكليزية في وادي الملوك وأدت يومها الى ولادة خرافة لعنة الفراعنة. وهو المعرض الذي شهدته باريس قبل غيرها من عواصم غربية، بدءاً من يوم السادس عشر من شباط (فبراير) 1967 مسجلاً نقطة الذروة والبداية في ما سوف يعتبر لاحقاً هوساً فرنسياً بكل ما يمت الى العصور الفرعونية المصرية بصلة، وانطلاقاً من هنا، بكل ما له علاقة بمصر ماضياً وحاضراً. صحيح أن عكاشة يذكر بعض مساهمات مالرو وبعض أياد بيضاء كانت له، لكن هذا الذكر يبدو في حقيقة أمره قاصراً عن الإحاطة بالدور الكبير الذي لعبه ذلك الذي كان وزير ثقافة الجنرال ديغول في ذلك الحين ناهيك بكونه أحد كبار الأدباء الفرنسيين والمهتمين بتاريخ الفنون الشرقية بصورة عامة. > والحقيقة أن ثروت عكاشة يروي أن فكرة المعرض قد واتته فيما هو يفكر بالعثور على ما يكفي من المال لتمويل عمليات نقل معابد فيلة كي لا تُغمر بمياه السد العالي، مضيفاً أن الحكومة الفرنسية سرعان ما تحمست لـ «المشروع وسارعت بإعداد القصر الصغير لإقامة المعرض فيه، وأشرفت على إعداده وتنسيقه السيدة (عالمة المصريات) كريستيان نوبلكور». ويبدو أن عكاشة يتناسى هنا الدور الأساسي والتأسيسي الذي لعبه أندريه مالرو في تحقيق ذلك الحلم الذي كان يداعبه منذ زمن بعيد والذي حقق نجاحاً أسطورياً في العاصمة الفرنسية حيث إن عدد زوار المعرض حتى يوم إغلاقه في الرابع من سبتمبر من العام نفسه بلغ مليوناً ومئتين وستين ألف زائر، أي تماماً ضعفي عدد زوار معرض كان أقيم العام السابق لأعمال بيكاسو اعتبر يومها محققاً رقماً قياسياً في العدد الإجمالي لزوار معرض من المعارض. واليوم إذا أردنا أن نعيد الحق الى أصحابه يمكننا أن نذكر، مقابل ما يقوله الدكتور عكاشة من أنه قد فاتح الرئيس عبد الناصر بالمشروع فوافق عليه خلال ثوان، أن مالرو نفسه كان قد بحث في أمر المعرض مطولاً مع الرئيس المصري قبل ذلك بعام تقريباً حين قام بزيارة تاريخية الى مصر موفداً من جانب الجنرال ديغول. وكانت زيارة سياسية وثقافية في الوقت نفسه وكان من بين نتائجها الاتفاق على إقامة ذلك المعرض الذي كان الطرفان يدركان مبلغ ما يتسم به من أهمية، أولاً في ترسيخ العلاقة بين البلدين، ولكن ثانياً في تلميع صورة مصر في زمن كانت فيه هذه الأخيرة محاصرة غربياً بشكل لم يكن يريح الجنرال ديغول نفسه. > إذاً، من ناحية مبدئية وأساسية، كان الهدف من الزيارة التي قام بها الكاتب الفرنسي أندريه مالرو إلى مصر خلال الأيام الأخيرة من شهر آذار (مارس) 1966، هدفاً فنياً ثقافياً. وهو سيتحقق في العام التالي كما نعرف: إقامة معرض توت عنخ آمون في باريس، ذلك المعرض الذي أثار هوس الفرنسيين جميعاً، وأقام الدنيا هناك ولم يقعدها، وأدى - بين أمور أخرى - كما أشرنا، إلى ولادة تلك النزعة الفرنسية الإيجابية في اتجاه مصر وتاريخها الفرعوني. والحقيقة أن أندريه مالرو، وبمعرفة ثروت عكاشة، كان هو الذي رتب ذلك المعرض، خصوصاً بعد أن نال في سبيل ذلك موافقة الرئيس جمال عبدالناصر، الذي كان في ذلك الحين في حاجة ماسة الى «عملية العلاقات العامة» تلك. إذ في ذلك الحين، كان التوتر بين القاهرة والولايات المتحدة الأميركية يتزايد، وكانت حرب اليمن قد عزلت عبدالناصر عربياً، كما أن الإصلاحات الاجتماعية والاشتراكية، أثارت العواصف من حوله في الداخل، وكل ذلك في وقت كان فيه الرئيس المصري قد بدأ يخامره اليأس من صدق الاتحاد السوفياتي في التعامل معه. فإذا أضفنا إلى هذا أن عبدالناصر كان يزيد، في ذلك الحين، من الاندفاع في طريق نوع من الصلح مع إسرائيل، وهو يراقب بعين الحذر ما يحدث في سورية حيث قام نظام بعثي يساري «أخذ يزايد عليه لفظياً» وفق تعبير صحافي فرنسي في ذلك الحين، ويحاول «أن يدفعه الى تصعيد الموقف العسكري مع إسرائيل»، يبدو لنا من الواضح أن عبدالناصر وجد الحل في التقارب مع فرنسا، وعبرها، في فتح علاقات جديدة مع أوروبا، فوجد في ذلك المشروع الثقافي الحضاري خير وسيلة لتحقيق ذلك كله ولا سيما من خلال فرنسا، البلد الغربي الذي كان الأقرب الى العرب في زمن الجنرال ديغول. > وفرنسا في ذلك الحين كانت شارل ديغول، الرئيس القوي الذي كان قبل ذلك خطا خطوات كبيرة في اتجاه العالم العربي، وخصوصاً منذ ساهم في نيل الجزائر استقلالها، والزعيم الذي كان لا يتردد من دون التصدي للقوى العظمى، ويقف في خندق آخر، الآن، غير خندق الحلف الأطلسي. ومن هنا، لئن كان من الواضح أن أندريه مالرو، لم يقصد مصر لمجرد أن يرتب معرضاً في باريس، حتى ولو كان المعرض على ضخامة وأهمية معرض توت عنخ آمون. كان من الواضح أن الزيارة في جوهرها سياسية. فأندريه مالرو كان في ذلك الحين وزيراً للشؤون الثقافية في فرنسا، وكانت له كلمة مسموعة لدى الرئيس شارل ديغول، صديقه ورئيسه. وثروت عكاشة كان يعرف هذا، وكان يعرف أيضاً أن زيارة يقوم بها مالرو الى مصر، ولقاء يجمعه مع الرئيس المصري، سوف يكون لهما أثر كبير لدى ديغول وفرنسا في شكل عام. من هنا، حين اجتمع اندريه مالرو بالرئيس جمال عبدالناصر يوم 27 آذار (مارس) 1966 أي في أول أيام زيارته لمصر وفي حضور عكاشة طبعاً، كان من الطبيعي أن يمرا على ذكر معرض توت عنخ آمون. إذ وافق عبدالناصر على إقامة المعرض خلال ثوان، ثم انتقل الرجلان الى الحديث عن التعاون الاقتصادي والسياسي (والثقافي) بين بلديهما. > أُجري الاجتماع يومذاك في منزل عبدالناصر في «منشية البكري» وسوف يخرج منه مالرو مبتسماً قائلاً لمن حوله إنه تأثر كثيراً بشخصية الرئيس المصري. بل سوف يقول لاحقاً إنه وجد روحاً واحدة تجمع بين الرواية التي كتبها الرئيس المصري في شبابه بعنوان «ثمن الحرية»، وبين بعض رواياته هو - أي مالرو - الرئيسية مثل «الشرط الإنساني» و «الأمل»، حيث إن «هناك قاسماً مشتركاً بيننا هو التفاؤل بمستقبل الإنسان وتأكيد مشروعية فعل المقاومة ضد الطغيان». وكان من نتيجة ذلك كله أن عاد أندريه مالرو إلى بلاده ليجتمع من فوره الى الرئيس شارل ديغول ناقلاً إليه انطباعات شديدة الإيجابية عن لقائه بجمال عبدالناصر، وناقلاً إليه كذلك دعوة الرئيس المصري له لزيارة مصر. > ويمكننا هنا أن نقول إن ما نقله مالرو الى ديغول، من رغبات عبدالناصر السلمية، وكذلك من توقه الى الانفتاح على فرنسا وأوروبا، ومن إعجابه بالثقافة الفرنسية، ما حرك عواطف ديغول تجاه مصر والعرب، وأنتج تلك المواقف التي أبداها ديغول لاحقاً، ولاسيما إبان «حرب الأيام الستة» حين أدلى بتصريحات بدت أقرب لتأييد مصر والحق العربي فأقامت الصهيونية ضده ولم تقعدها بعد ذلك أبداً. هذا بالنسبة الى الرئيس الفرنسي، أما بالنسبة الى المعرض فنعود الى الدكتور ثروت عكاشة لننقل عنه إن معرض «توت» كان «الحدث الذي طغى على غيره في عاصمة الفن الأوروبية وجعل من العام 1967 عام مصر في فرنسا فغدت الكتب التي تتحدث عن مصر وصور آثارها تباع في كل مكان، ويتهافت عليها الجميع. بل لقد بات الأسلوب المصري الفرعوني القديم مصدر الهام لبيوت الأزياء ورسامي الكاريكاتور ومصممي رقصات الباليه والفنون الاستعراضية التي كان من أشهرها عرض الفولي برجير وقتذاك، كما أصبح مادة رئيسية للنقد الفني في الصحف والمجلات الفرنسية...».
مشاركة :