خلافا للاعتقاد السائد لدى بعض الناس، وهو اعتقاد فحواه ان ايران انتصرت في سورية، هناك واقع آخر على الأرض يتمثّل في ان ايران ساهمت في تدمير سورية وليس في إعادة الحياة اليها. انّها جزء من مشروع تفتيت سورية ولا شيء آخر غير ذلك. يشير الواقع على الارض الى انّ ازمة ايران تتجاوز سورية. انّها ازمة تراجع المشروع التوسّعي الايراني الذي يسعى حاليا الى استغلال الاستفتاء الذي اجري في كردستان العراق لتحقيق انطلاقة جديدة له. كلّ ما في الامر ان ايران تراهن على هذا الاستفتاء من اجل تبرير عودتها القويّة الى الإمساك اكثر بالعراق حيث لديها قاعدة ثابتة هي الميليشيات المذهبية المنضوية تحت شعار «الحشد الشعبي». هذه الميليشيات التي ارادت ايران تحويلها الى مستقبل المنطقة، ومستقبل كلّ دولة عربية، صارت لعبة مكشوفة رغم إضفاء حكومة حيدر العبادي صفة شرعية عليها. كانت الحكومة العراقية التي تعاني من الضغوط الايرانية في وضع «مكره اخاك ولا بطل» عندما قبلت بشرعنة مجلس النوّاب لـ «الحشد الشعبي» بحجة انّه وسيلة من وسائل مواجهة «داعش». لم يكن تنظيم «داعش» الارهابي في ايّ وقت سوى أداة من أدوات الاجهزة الايرانية والسورية. استُخدم «داعش» من اجل تحقيق هدفين. الاوّل اظهار النظام السوري في مظهر من يحارب الإرهاب، علما انّه جزء لا يتجزّأ منه، والآخر إيجاد وظيفة لـ «الحشد الشعبي» كبديل من القوات النظامية العراقية، خصوصا الجيش العراقي. هذا ما يفسّر تقديم حكومة نوري المالكي، الذي كان تحت السيطرة الايرانية كلّيا مدينة الموصل على صحن من فضّة الى «داعش» في يونيو 2014. حصل ذلك تماما كما قدّمت اميركا العراق الى ايران هديّة في ربيع العام 2003، معطية إشارة عودة الحياة الى المشروع التوسّعي الايراني الذي يسعى حاليا الى تجديد شبابه معتمدا على الاستفاء الكردي وتفاعلاته في البلدان المجاورة للعراق... ليس لدى ايران من نموذج تقدّمه للدول التي تطمح الى جعلها تدور في فلكها سوى «الحرس الثوري» الذي تحوّل الى بديل من الجيش الايراني الذي لم يثق النظام به يوما وذلك منذ سقوط الشاه في العام 1979. من بين الأخطاء الضخمة التي ارتكبها صدّام حسين حين دخل في مواجهة شاملة مع ايران في 1980 توفيره فرصة للنظام الجديد الذي اسّسه آية الله الخميني من اجل ارسال الجيش الى الجبهات وابعاده عن المدن. كان الخميني يخشى الجيش وقد وجد في الحرب التي شنّها صدّام والتي فعلت ايران كلّ شيء من اجل جرّه اليها، فرصة لا تفوت من اجل التخلّص من الجيش واحلال «الحرس الثوري» مكانه. كان الجيش يشكّل تهديدا للنظام الجديد، فيما «الحرس الثوري» أداة من أدوات هذا النظام، بل تعبير عن طموحاته التي تتلخّص بالامساك بالسلطة و«تصدير الثورة». تعتبر كلّ الميليشيات التي اقامتها ايران في المنطقة نسخة عن «الحرس الثوري». تعتبر ايران نجاح مشروعها الإقليمي مرتبطا بنشر نموذج «الحرس الثوري» في كلّ مكان. لذلك كان «حزب الله» الذي يعمل من اجل فرض ارادته على الدولة اللبنانية بعدما استطاع تغيير طبيعة المجتمع الشيعي في لبنان، في اكثريته طبعا. هناك عدد كبير من أبناء الطائفة ما زال يتصدّى للنموذج الذي يعمل الحزب، ومن خلفه ايران على بنائه، كي تعمّ ثقافة الموت كلّ لبنان. على الرغم من ذلك كلّه، لا يزال لبنان يقاوم ولا تزال ثقافة الحياة شعار معظم اللبنانيين. لم تعمل ايران في سورية سوى على نشر ميليشياتها المذهبية في كلّ مكان. شاركت النظام السوري في حملته على المدن الكبرى، وهي حملة تستهدف هذه المدن بصفة كونها مدنا سنّية اوّلا. وشاركت النظام أيضا في السعي الى تغيير طبيعة دمشق على نحو جذري. هل مثل هذا المشروع القائم على فكرة التخلّص من المدن السورية الكبرى وتهجير اكبر عدد من السوريين مشروع قابل للحياة بايّ شكل ام انّه مشروع حرب مستمرّة تكلّف مليارات الدولارات اضطرت ايران خلالها ايران الى الاستعانة بروسيا في مثل هذه الايّام من العام 2015 كي لا تجتاح المعارضة الساحل السوري ودمشق نفسها؟ استغلّت ايران الاستفتاء الكردي كي تستعيد المبادرة في العراق، خصوصا بعد اظهار رئيس الوزراء والشخصيتين الشيعيتين مقتدى الصدر وعمّار الحكيم نوعا من التذمرّ منها. عبّرت عن هذا التذمّر القنوات التي فتحتها بغداد مع دول عربية، على رأسها المملكة العربية السعودية. أعلنت ايران حالا من الاستنفار في وجه كردستان العراق، خصوصا بعدما احتفل اكرادها باجراء الاستفتاء في ذلك الاقليم العراقي. الأكيد انّ ايران لن تنتصر على الاكراد، بما في ذلك اكرادها. ليس تظاهر هؤلاء فرحا بما فعله اكراد العراق سوى دليل على انها عجزت عن ان يكون نظام «الجمهورية الإسلامية» ضمانة لكلّ الايرانيين وانّه ليس سوى نظام قمعي لا مستقبل له. هل من يضمن ان يكون هناك «مرشد» جديد للجمهورية في حال غياب علي خامنئي؟ لن تنتصر ايران في سورية ولن تنتصر حتّى في اليمن حيث حاولت نقل تجربتها عبر الحوثيين، اي «انصار الله» الذين ليس لدى لديهم ما يفعلونه حاليا غير التضييق على حليفهم الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي فقد حريّة التحرّك بامان في صنعاء... في النهاية، يحتاج مشروع توسّعي مثل ذلك الذي تنادي به ايران الى اكثر من ميليشيات مذهبية تنشر البؤس وثقافة الموت في العراق وسورية ولبنان واليمن. يحتاج الى اكثر من تواطؤ أميركي، كما حصل في العراق بعد 2003 او في اثناء التفاوض في شأن الملفّ النووي الايراني. يحتاج الى اكثر من التحالف مع روسيا كي يبقى بشّار الأسد في دمشق. لا يمكن لدولة، مهما امتلك قادتها من دهاء وحقد على العرب، يعيش اكثر من نصف شعبها تحت خطّ الفقر تقديم نموذج والترويج له عن طريق الميليشيات. تستطيع ايران تدمّر ولا تستطيع ان تبني. لا يمكن لمشروعها الّا ان يكون في حال تراجع. لا لشيء سوى لانّه ليس لديها ما تطرحه غير ثقافة الموت والشعارات والمزايدات. هل من دليل على الفشل الايراني اكثر من الخطاب الأخير للامين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله الذي قال فيه «ادعو اليهود الى ان يغادروا فلسطين المحتلة الى الدول التي جاؤوا منها كي لا يكونوا وقودا في الحرب المقبلة، فقد لا يكون لهم الوقت الكافي للمغادرة». بعد هذا الكلام الذي لا يذكّر الّا بما كان يقوله احمد الشقيري قبل حرب 1967 عن «رمي اليهود في البحر»، هل يجوز الكلام عن انتصار لإيران في ايّ مكان، بما في ذلك سورية، باستثناء القدرة على الاستثمار في الميليشيات المذهبية؟ الجواب بكلّ بساطة انّ الحديث الوحيد الممكن هو عن تراجع المشروع التوسّعي الايراني الذي لم يعد لديه من مكان يعرض فيه عضلاته غير لبنان... لعلّ وعسى ينجح في تحويل البلد الصغير، عبر الانتخابات النيابية التي يصرّ حسن نصرالله عليها، الى مستعمرة إيرانية قبل فوات الاوان.
مشاركة :