< قال أبوعبدالرحمن: كان عبدُالناصرِ في وِجْداني رفيقَ الضعفاءِ، ورائدَ العدلِ والاستقرارِ، وإشاعةِ التعليمِ؛ فهو مُصْلِحٌ بكلِّ معاني الكلمة.. ثمَّ وجدتُ هذا الوِجْدانَ بعد ثلاثة عقودٍ عند الكاتبِ المصريِّ إبراهيم الصيَّادِ؛ في مقالتِه المليحةِ التي نشرها في صحيفة «الحياة» الإثنين 5-1-1439 بعنوان: «عبدالناصر لمْ يكنْ ناصرياً».. وأرجو أنْ يتقبَّل تصحيحاتي أو ترجيحاتي، مع الصِحَّة بين معقوفين؛ هكذا [ ]؛ وتلك وأمثالُها أخطاءٌ نحويَّةٌ ولُغَويَّةٌ غَمَرَتْ الصحافَةَ ووسائلَ الاتِّصالِ من الفضائياتِ المسموعةِ المرئية؛ ما جعلَ السياق بعضَ المرَّاتِ كبعرِ الكبشِ.. قال الصيَّاد: «على رغم [قال أبوعبدالرحمن: الصوابُ: على الرُّغْمِ من] مرور 47 عاماً على وفاة جمال عبدالناصر: فإنه يظل حتى الآن أحدَ الزعماء العرب الأكثرِ إثارةً للجدل في الأوساط السياسية والثقافية العربية، بغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق مع توجهاته وسياساته، التي امتدت عملياً 14 عاماً (1953-1967)؛ وهو تاريخُ الهزيمةِ العربية في مواجهةِ إسرائيل، والتي [الصوابُ: من دون واوٍ قبلها؛ لأنَّ «التي» صفةٌ للهزيمةِ، وليستْ إضافةً إليها] عُرِفتْ بحرب الأيامِ الستة، أو نكسةِ حزيران (يونيو).. ويمكن القولُ: الرَّجُلَ [الأفصحُ القولُ: بأنَّ] يُعتبر نموذجاً للقيادة الاستثنائية التي جاءت في ظرفٍ تاريخي كانت الأمة [الأفصحُ والأبلغُ إثباتُ واوِ الاستئناف قبل (كانت)] العربيةُ في أشدِّ الحاجةِ لها لاسيما [الأفصح إثباتُ الواو قبل (لا) سيما] أنه لم يستسلمْ نتيجةَ هذه الهزيمةِ، وظل يتحمل عبْءَ المسؤوليةِ على رغم جراحِه [الأفصح: (على الرُّغْمِ من جراحه)؛ وذلك بمعنى الكُرْهِ.. ويجوز على (رَغْم) بفتح الراء المهملة بمعنى إرغام] المثخنةِ.. قرَّر [الأفصح إيراد واو الاستئناف هكذا : وقرَّر] عبدالناصر إزالة آثار العدوان، وعمل على إعادةِ بناء الجيش، وكانت تدعمه جبهةٌ داخلية قوية.. كما دخل حرب الاستنزاف بعد أشهرٍ قليلة من العدوان؛ وفي الوقت نفسِه أعاد عبدالناصر ترتيبَ البيتِ العربي، حتى غيَّبه الموت في 28 أيلول (سبتمبر) 1970؛ وطِوالَ حكمه حتى وفاته: نلاحظ أنه لم يستخدمْ تعبير «الناصرية» بمعناه الآيديولوجي إنما [الأوْلى إيرادُ واو العطف: وإنما] انتشر التعبيرُ بعد وفاته في أدبيات السياسة المصرية بخاصة [الأفْصح والأنسبُ للسياق: خصوصاً]، والسياسةِ العربية عموماً؛ ومن هنا لم يكنْ عبدالناصر منظِّراً أو مفكراً سياسياً يبحث عن وضع نظريةٍ أو مذهب سياسي؛ لكنه [الأولى إيرادُ واو العطف: وكان] كان قارئاً جيداً للتاريخ، ومقتنعاً بتطبيق نظرية التجرِبة والخطأ؛ وعليه لم يكنْ عبدُالناصر يؤمن بالقوالبِ الجامدة أو «التابوهات». قال أبوعبدالرحمن: مثقَّفُو العصرِ مُغْرَمون بالمصطلحاتِ «الْخَواجِيَّةِ» وإنْ كان في المأثور العربيِّ ما هو أدَلُّ؛ لأنه أصَحُّ أو أرْجَحُ؛ لهذا اُضُطْرِرْتُ إلى تبيانِ هذا الْمُصطلح «الْخَواجِيِّ»؛ فالتابو جَمْعُ تابوهات؛ وهي كلمةٌ بولينيزية؛ (وبولونيزيا مجموعةٌ كبيرة لأكْثرَ من 1000 جزيرة مبعثرة في المحيط الهادي المركزي والجنوبي) تُطلَق على المحظور في نظر المجتمع؛ أي ما تَعُدُّه أَعْرافُ المجتمعِ والسياسية من المحرمات؛ إذن «التابو» خطٌّ أحمرُ لا يقبل المجتمعُ التجاوزَ به؛ وهكذا كانت تعني في لغاتِ سكان جُزرِ المحيط الهادي، وعند كل الشعوب البدائية؛ وأوَّلُ من نقلها إلى الغرب الكابتن جيمس كوك.. ومِن الممنوع بهذا المصطلح انتقادُ الزعيم، أو الثناءُ على نظامٍ آخرَ يخالفه فكرياً، ومن الممنوع في المجتمعات العربية مناقشةُ المواضيع المتعلقة بالأمور الجنسية، إلا خلف الأبواب المغلقة. قال أبوعبدالرحمن: لا غضاضَةَ في عدمِ نِسْبَةِ عبدالناصر سِياستَه إليه نفسِه؛ [فيقولُ مثلاً: هذه ناصِرِيَّتي] طيلةَ سياستِه في حُكْمِه مصرَ؛ فلا داعيَ لعبارة العنوان: «عبدالناصر لم يكن ناصِرِيّْاً»؛ لأنَّ كل ما ابْتَكَرَه أو اخْتَارَه منسوبٌ إليه.. واستدراكي على الأستاذ الفاضل إبراهيم الصياد في ما نفاه عن عبدالناصر: أنَّ جمال عبدالناصر: مُنَظِّرٌ تارةً نتيجةَ تفكيرِه السياسيِّ، وقراءتِه التاريخَ؛ «مِن غيرِ اِسْتِقْصاءٍ»، ووعيِه التجرِبةَ التاريخيةَ صواباً أو خطأً.. وبيقينٍ نعلمُ أنَّ جمال عبدالناصر لا يُؤْمِنُ بالتجرِبةِ الجامدَةِ في إدراكِه ووعيِه؛ لأنَّه زعيمٌ مصلِح منظِّرٌ تارة، كما مَرَّ آنفاً.. ألم يقلْ الصيادُ بعد ذلك: «ولهذا نجدُه يربط دائماً بين الفكرة وإمكاناتِ الواقِع ويخرجُ بالتطبيقِ الملائم؛ وعلى سبيل المثال كان ناصر اشتراكياً بمعنى الكلمة من الناحية الإنسانية [؛ أيْ الاشتراكيةَ التي تعْني] عدمَ استغلال الإنسان لأخيه الإنسان؛ ومن ثم انحاز إلى الفقراء.. وفسَّر البعض [؛ الأفصحُ ههنا (بعضَ) بدون (الْ) قبلها؛ لأنَّ (الْ) ليستْ معهوداً ذِكْرِياً، أو حضورياً، أو علمياً؛ وتكون العبارة على سبيل المثال: بعضُ الدارسين] هذا الانحيازَ على أنَّ عبدالناصر كان «شيوعياً»، لكنَّ التجارِب أكَّدتْ أنه لم يكن كذلك، بل كان يؤمن بالتطبيق العربي للاشتراكية من خلال تحقيق مبدأين: «الكفايةِ الإنتاجيةِ» و«العدالةِ التوزيعيةِ»، وربْطه [الصوابُ: وربطهما] بفكرةِ أنَّ الإنسان له بقدر عمله، وليس بقدر حاجته؛ وهنا يَتَّضِحُ أنه لم يكنْ ماركسيَّ الفكرِ أو التَّوَجُّه». قال أبوعبدالرحمن: التَّوَجُّه إذا لم يكن توجُّهاً فكرياً فهو توجُّهٌ تقليديُّ؛ وقد يكونُ ذلك تقليداً عن قناعَةٍ تِلقائيةٍ بلا تفكير، وقد يكون عن اجتهادٍ خاطئٍ، وقد يكون مجاملةً مُوقَّتَةً لِصديقِه (خروتشوف)، الذي وعده بالأكاذيب؛ وهو في الواقِع إِلْبٌ عليه.. إلَّا أنَّ جمال عبدالناصر ليس ذا تَوَجُّهٍ ماركسيٍّ في هذه المسألةِ بيقين لا ريبَ فيه، كما سيأتي في سياق مُداخَلَتي هذه؛ وعلى أيِّة حالٍ: فإنَّ الإيمانَ بأنَّ «للإنسان بقدر عَمَلِه لا بقدرِ حاجتِه»: إنما يُقبل في مثلِ حالِ الطبيب الذي تغرَّب 30 عاماً على سبيلِ المثالِ يدرسُ الطِّبَّ في فرعٍ حيويٍّ تكون الأمَّة في أمس الحاجةِ إليه؛ وكان قد أنْهك جيبَ أهلِه بالصرفِ عليه، وصبرَ على الغُربَةِ، وعلى سَهَرِ الليالي؛ ثم عادَ إلى بلده وأمَّتِه ودولته؛ فهذا لا يكونُ راتِبُهُ الجزْلُ مثلَ راتبِ مَنْ يكنس الشوارعِ مثلاً؛ وليس عنده نفعٌ للأمةِ غيرُ ذلك.. وأمَّا أصحابُ مصاريفِ الزكاةِ كالفقير المدقِع، سواء أكان كنَّاساً أمْ طبيباً ماهراً ثم تعطَّل عن العمل وليس عنده ما يَسُدُّ رمَقَه، وليس عنده مَن يصرف عليه، وإنْ كانتْ له أسرةٌ شحيحةٌ لا تَعْبأُ به: فهذا حقُّه بحَسَبَ حاجته، وليس بحَسَبَ عملِه؛ لأنَّه عاطِلٌ عن العمل؛ وحقُّه ليس على الدولة فحَسْبُ؛ بل على الدولة، وعلى العاقلة من الأقاربِ الواجدين، كلٍّ بحَسَبَ قُدْرَتِه، وعلى الأغنياءِ من الزكاة الواجبة، أو الصدقةِ المستحبَّة.. وبيقينٍ عندي لا ريبَ فيه: أنَّ جمال عبدالناصر جعل للإنسان بمقدار عمله لا بمقدار حاجته، في مثلِ مسألةِ الطبيب المغترب ومَن يكنس الشارِع وليس يملك عملاً غير ذلك.. وأما إعطاءُ الإنسان بمقدار عمله لا بمقدار حاجته حال فقرِه وتَعْطُلِه عن العمل: فذلك مذهبٌ ماركسيٌّ؛ وعبدُالناصر بريءٌ منه، وقد جاءت الإشارةُ إلى هذا المذهب الظالم في قوله سبحانه وتعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [يس: 47]؛ فهذا هو مذهبُ الماركسيّْيِنَ المبنيُّ على «البقاءُ للأصلح»، والمعنى في الآية الكريمة: لو في ذلك صلاح لأطعمه الله؛ بل تجاوزتْ دعوى «البقاءُ للأصلح» إلى ظُلْمٍ يُفَتِّتُ القلوبَ من الرحمةِ؛ فأباحوا قتل المريضِ الميْؤوُسِ من شِفائه؛ لأنه عبءٌ على الخزانة المكوَّنةِ مِن أمْوال الشعبِ المؤمَّمَة ماركسياً، ولا صلاح فيه؛ والبقاءُ للأصلح؟!.. ثُمَّ قال الأستاذُ الصيَّادُ: «وَمِنْ أهمِّ عيوبِ عبدالناصر أنَّ حكمه لم يكن ديموقراطياً، وفسَّر الناصريون ذلك بأنَّ الظرف التاريخي كان يفرض عليه أنْ يتحكم في عملية اتخاذ القرار من 1952 إلى 1960م؛ وهي الفترة التي [الصوابُ: مدة؛ لأنَّ الفترةَ ليستْ اِسْمَ جزءٍ من الزَّمَنِ؛ وإنما هي صِفَةٌ لحالةِ فُتورٍ لشيءٍ ما، كفتور الوحي مُدَّةً عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم] عُرِفت بفترة «التَّحرر الوطني»؛ لمواجهة أعداء الثورة؛ ولكنه كان مقتنعاً بالفكر الديموقراطي، بدليل أنَّ من مبادئ ثورة 1952م إقامةَ حياةٍ ديموقراطيةٍ سليمة؛ وكان يُفترض أنْ يتمَّ تطبيقُ الحلول الديموقراطية التي نص عليها الميثاق الذي أصدره في أيار (مايو) 1962م كدليل للعملِ [الصوابُ: بصفتِها دليلاً؛ لأنَّ المرادَ الوصفُ المطابِقُ لا التَّشبِيهُ المُقارِبُ؛ ولهذا يُعاب على مثلِ المسلمِ أنْ يقول : «وأنا كمُسْلِمٍ»؛ بل يقول: بصفتي مُسْلِماً] الوطنيِّ في بداية عمل التنظيم السياسي الجديدِ والوحيدِ [الواوُ قَبْلَ (الوحيد) خطأٌ؛ لأنَّ المرادَ وَصْفُ الجديد بالوحيد؛ وليس المرادُ مَوْصوفاً آخَرَ معطوفاً على الوحيد] في مصر آنذاك والذي [وهكذا الواو خطأٌ قبل: الذي] حلَّ محلَّ الاتحادُ القومي وسُمِّيَّ الاتحادَ الاشتراكيَّ العربي؛ وقال: إنَّ حرية الكلمة هي المقدمة للديموقراطية ولكنْ لم تتحقق أي من هذه [الصوابُ : (أيٌّ)؛ لأنَّها فاعِلُ (تَتَحَقَّقُ)، والصواب أيضاً بالياءِ المُثنَّاةِ التحتيةِ لا التاء المثنَّاةِ الفوقية هكذا: يتَحقَّقْ] الأطروحات؛ بسبب الخوف من استغلال مناخ الحرية لمصلحة أعداء الثورة؛ وعلى رغم ذلك انتهز أعداءُ عبدالناصر فرصةَ الأداءِ غير الديموقراطي لحكمه؛ كي يُجهزوا على نظامه؛ الأمر [الأبْلغُ والأرجح؛ وهو الأمر] الذي مثَّل نوعاً مِن التَّحديات الداخلية والخارجية الضاغطة على الحكم، واعْتُبِر مبرراً لاستمرار السياسات الشمولية؛ وفي اعتقادي أنَّ هزيمة 67 كانت إحدى نتائجِ الإخفاق الديموقراطي في الحقبة الناصرية». قال أبوعبدالرحمن: الديمقراطية مبنيةٌ على إعطاءِ العقلِ حُرِّيتَه في التفكير؛ وهذا حقٌّ؛ ولكنه حَقٌّ مُوقَّتٌ بانتهاءِ تفكيرِ العقل إلى يقين يكون اسْتِئنافُه بتفكيرٍ جديد اِعتراضاً عليه؛ فهذا سفسطةٌ ومُصادرة؛ وإنما الذي يتعيَّنُ: الالتزامُ بيقينِ العقلِ؛ فمسؤوْلِيَّةُ الالتزامِ مُنْهِيَةٌ حُرِّيَّةَ التفكير.. وقد يكون توقيتُ التفكيرِ بانتهاءِ حُرِّيةِ التفكيرِ إلى الرُّجحانِ؛ والرجحانُ له حُكْمُ اليقينِ ما ظل الرجحانُ قائماً؛ لأنَّ اِتِّباعَ المرجوح سَفَهٌ وتَحَكَّمٌ بإلغاءِ لما زاد من الرجحان؛ فهذا معنى حُرِّيةِ تفكيرِ العقل بضرورة المنطقِ (الذي هو ضرورةُ العقلِ)؛ وهو ضرورةُ شرائعِ الله كما في قولِ الله سبحانه وتعالى: (فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ). [يونس: 32]، وقوله سبحانه وتعالى: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [لقمان: 30]، وانظر [سبأ: 42]، و[غافِر: 5]، و[الشورى: 24]، و[البقرة: 42]، و[آل عمران: 71]، و[الأنفال: 8]، و[الرعد: 17]، و[الإسراءِ: 81]، و[الكهف: 56]، و[الأنبياء: 18]؛ فكلُّ هذه الآياتِ الكريمة ثُنائِيَّةٌ بين الحقِّ والباطل، ولا ثالث بينهما.. والباطلُ يكونُ اِسْماً لِما لا وجودَ له أَلْبتَّةَ (بالألفِ المهموزة؛ وذلك هو الصحيح، ولا حجة لمن جعلها بألفٍ مُسَهَّلَةٍ غيرِ مهموزة)، وتكونُ لِما لا اِعْتدادَ به؛ فهو خُرافَةٌ أبطلَتْه الحقيقةُ.. والضلالُ هو المَيْلُ والضَّياعُ عَمَّا رسَمَه الحقُّ؛ ولهذا يقال لمن يريدُ القصدَ إلى مكة المكرمة غرباً بسببِ مطرٍ، وريحٍ، وغيمٍ بسحابٍ داجنة؛ وهو يريدُ الصلاةَ تِجاه القبلة، وقد عَمِيَتْ عليه المسالِك؛ فانحرف بالتدريج إلى الشرق؛ فهذا صِفَتُه: أنَّه ضاع عما يريده؛ وأنَّه ضَلَّ عن الْقِبْلَة؛ فهذا ضَلَّ عن مرادِه؛ لأنه يريد الصلاة إلى الكعبةِ التي على وجه الأرض؛ ولكنَّ هذا الضلالَ ليس مُخالفاً الحقيقةَ؛ لأنه لو صلَّى في هذه الحال إلى الشرق أو الشمال أو الجنوب: غيرُ مُخالفٍ الحقيقةَ؛ لأنَّ الله الحقَّ المبين محيطٌ بوجهه الكريم بكل العالَم؛ والمُصَلَّي معذور؛ لأنه غير مُتَعَمِّدٍ الضلالَ عن الكعبةِ؛ فحيثما اتَّجَه فَثَمَّ وجهُ الله؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 115]. قال أبوعبدالرحمن: وأمَّا الديمقراطيةُ فهي التَّحَرُّرُ من حقوق اللهِ سبحانه الخالِقِ كلَّ مَن سِواه؛ المهيمنِ عليهم، الماضيةِ فيهم إرادته.. وفي هذا التحرُّرِ العبودِيَّةُ للشهواتِ والشبهات، ولا وجودَ لِحُرِّيَّةٍ مطلقة؛ فكلَّ مَن تحرَّر من شيء فهو عبدٌ لشيءٍ آخَرَ، أو أشياءَ أُخْرَى؛ فالمتحرِّر مِن الحقِّ عَبْدٌ للباطلِ والضلالِ، والمتحرِّرُ من العدلِ عبدٌ للظلم، والمتحررُ من الجمال عبدٌ للقبح، ولا وسيط ثالثَ في كل ذلك.. والديمقراطِيَّةُ مشْرُوطَةٌ بالْعَلْمَنَةِ والتَّحرُّرِ من مراد الله في شرائِعِه الربانيَّة الإلهيةِ (إذن هي الديموقراطيةُ العَلْمانيةُ)؛ وهي على قُبْحِها وظُلْمِها وتحرُّرِها من دين الله: لا تَتَحقَّقُ للمستضعَفين إلا برضاءِ العالَم الأقْوى؛ وإلَّا فهي حِبْرٌ على ورَقٍ، ولم ينفع (ليبيا) اليومَ (وهذا قليلٌ من كثير) اصطناعُ الديموقراطية بعد تَخَلِّي القائمِ بالثورةِ على (معمَّر القذافي)؛ وهو (مصطفى عبدالجليل)؛ فالقُوَى العالَمِيَّةُ الظالمة ترتَشِفُ نِفْطَهُم الذي هو أصْفَى نِفْطٍ في العالم، وتَقْسِمُهم شيعاً؛ فأصبحوا يحِنُّوْنَ إلى حُكْمِ «القذَّافي» الذي ثاروا عليه لظلمه، وإلى لقاء آخر إنْ شاء الله تعالى، والله المستعان. * مؤرخ وأديب سعودي.
مشاركة :