اضطرتني الظروف للبقاء في المشفى عدة أيام مع قريبة لي، أخذنا طريقنا وراء الممرضة في الممر الطويل، وأنا أدعو الله أن تكون الغرفة أحادية فلا يشاركنا فيها أحد، فما أصعب أن يشاركك وجعك غريب عنك، فما بالك بغربة وطن ولسان، فتح باب الغرفة 102 لأجدها تجلس على سريرها بجوار سرير آخر كان من نصيبنا، كانت طريحة الفراش، امرأة قاربت على السبعين من العمر، ولكن بهاء طلتها ونور وجهها بحجابها الأبيض الصافي أعلم قلبي بأن هذه المرأة سيكون لها في النفس مكان، وسيكون لي معها حكاية.. الحاجة (فاطمة).. عرفت نفسها بعد سؤالي. كانت ودودة منذ دخولنا، بادرتنا بالدعاء والترحاب والسؤال عن الحال، عرفت أننا من مصر واللهجة تكفي ليعرفك أي عربي. "أنتم من مصر، والله أنا بحب مصر جداً، كانت بنتي مريم هناك عاشت في مصر 22 سنة". عرفت أنها من سوريا من الغوطة الشرقية بلد الثورة والثوار.. أخذنا سريرنا وبدأنا نرتب حاجياتنا ونحن نتبادل التعارف.. "لا تخافي شيئاً وتوكلي على رب العالمين" هكذا قالت لمريضتي وهي تحاول طمأنتنا. "أنا دائماً أسلم أمري لله، وهو لم يخذلني أبداً، والله يا بنتي الله أعطاني أربعة عشر من الأبناء، سبع من البنات وسبعة من الأولاد، كانوا يذهبون لمدارسهم وزوجي لعمله، وأنا أجري في بيتي منذ شروق الشمس أرتب حاجياتهم وأعد طعامهم، وأقضي حوائج بيتي حتى يعودوا، وكنت قوية، ولكن ها أنا الآن، ما عدت أقوى على المشي بضع خطوات حتى تأتيني الأزمة القلبية". كنت أستمع إليها، وأنا أرى في عينيها قصة جهاد كبيرة، وكفاح امرأة ذات عزيمة وفطرة نقية خالصة، رددنا معاً أذكار المساء وبعدها جلسنا نتسامر معاً. قالت: "ذاب قلبي على بنتي مريم، كانت تتعلم في الأزهر الشريف، ولها خمسة من الأبناء، وزوجها رجل طيب، كانت ملتزمة وودودة، أحبها كل جيرانها، ومن الله عليها وأكرمها بأن أخذت دكتوراه من جامعة الأزهر، وبعد الحفلة التي أعدها لها زملاؤها بهذه المناسبة بقليل خطفها مني ملك الموت، وماتت مريم وما رأيتها فلقد دفنت في مصر". حكت لي كيف استشهد ولدها عبد الرحمن في سوريا، بعد أن هوت قذائف الأسد عليهم كالمطر، فقتل ولدها وهدّم بيتها، وأصيب لها ولد آخر بإحدى رصاصات الشبيحة، فجاءت الرصاصة في وجهه فأصبح يعاني كثيراً في الكلام. ترملت ثلاث من بناتها وما زلن في ريعان الشباب، قتل أزواجهن بقصف أو بقنص. بين الكلمات كانت تخنقها العبرات، ويغلبها الحزن على من فقدت من الأحباب، فتبكي ولبكائها أبكي، وتجري دموعي وكأنني أعرفها منذ سنين.. ولكن سرعان ما يعلو وجهها ابتسامة الرضا فتصبرني، وتقول:"الحمد لله على قدره وعطائه، والله راضيين بقضائك يا رب، والله صابرين لحكمك يا رب". تروي لي الحاجة فاطمة وابنتها كيف جاءت إلى هنا هي وزوجها، وأصيب زوجها بالقدم السكرية، فاهترأ لحم ساقه من بعد الركبة بقليل، وحتى القدم كان اللحم متآكلاً تماماً، وكل المستشفيات التي ذهبوا إليها أكدت لهم أنه لا حل غير البتر، تقول: كنت أبكي طوال الليل على ألمه، وهو يبكي من وجعه.. ولكن نصحهم طبيب بالتغيير المستمر على الجرح ووصف لهم بعض الأدوية، التزمت ابنتها بالتغيير المستمر على الجرح وتعقيمه واستخدام المراهم والعلاج، وهي ألزمت نفسها بألف بسم الله الشافي المعافي وقراءة يس وألف صلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعدة أوراد أخرى، بنية أن يشفي الله مريضها، وما أحلى تعبيرها الراقي وهي تقول: (قدرة قادر غلبت عبد القادر... سبحان من أنبت اللحم في ساقه من جديد، سبحان الحي المميت كان كل يوم يشفى جرحه بمقدار رأس عود الكبريت حتى فدى الله قدمه من البتر). والله إن ذلك لعبرة لأولي الألباب، كنت أراقبها عند وضع المحاليل المغذية لها كيف تتابع القطرات وهي مرددة: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر". كانت تقوم للتهجد ليلاً وهي المريضة صاحبة العذر تمشي من سريرها للحمام بصعوبة وتعود، وأنت تسمع أنفاسها اللاهثة، إلا أن العزائم الصادقة تغلب أحياناً ضعف الأجساد الواهية. جلستُ على أريكتي أتلو آيات القرآن، فإذا بها تسألني عما أحفظ، فذكرت لها أني أقرأ وردي وأسترجع حفظي فقالت: إني أحفظ بضع آيات من سورة البقرة فهل تسمعينها لي؟ أجبتها: نعم ، وأنا أقول في نفسي تحفظ عشر آيات أو يزيد، فإذا بها تأتي بالحزب الأول في نفس واحد من غير أخطاء ولا تردد. تعجبت من ذلك وسألتها كيف حفظتها؟ فقالت: "كنت كل ليلة أجعل ابنتي تكتب لي آية واحدة أسهر عليها وأرددها طوال الليل حتى أحفظها وأضمها لأخواتها في الصباح". يا الله.. كم استصغرت نفسي كثيراً فكم ضيعنا من أوقات في تصفح ما لا ينفع وكم فاتتنا من آيات تزيد الحسنات، وترفع الدرجات وسبقنا بها أولو العزائم والطاعات. كانت مريضة قلب، ولكن والله ما رأيت قلباً حياً كقلبها في زمن ماتت فيه القلوب وانتكست فيه الفطر السليمة. كانت مقيمة في المشفى منذ تسعة عشر يوماً لضعف قلبها الذي عانى الكثير في دنيا البشر وقد حدد لها الأطباء صباح الأربعاء موعداً لعملية جراحية في القلب فقد أغلقت أحزانها ثلاثة أوردة من قلبها الصبور، منعها الأطباء من الطعام استعداداً للجراحة. قمنا مبكرين نعد الحاجة فاطمة للعملية فقد أصبحت وابنتها صديقتين وأختين جمعتنا بلاد الغربة وترك الأوطان وفقد الأحباب ووجع القلوب، لبست ملابس العمليات وجلست أمام النافذة وقد أشرقت الأرض بنور ربها مستسلمة لأمره تعالى قائلة: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ). أصبحت لله ضيفاً والله للضيف يُغني أحسنت بالله ظنّي أن يكشف السوء عني يا عالم السر منّي لا تكشف الستر عني وجاءت الممرضات لأخذها للغرفة ودعناها واستودعناها الله.. بعد دخولها العمليات بدقائق ، جاء زوجها يدفعه حفيده علي كرسي متحرك ، وهو يسأل بلهفة وخوف: أين هي ؟؟ دخلت الجراحة أم لا ؟؟ فلما علم بدخولها بكى بحرقة شديدة وهو يقول : كيف دخلت قبل أن أراها ، حبيبة قلبي خرجت مبكرا لأدركها ولكن زحمة المرور أخرت وصولنا ، آه ياحبيبتي سامحيني كنت أود رؤية وجهها الجميل قبل الفراق ، شريكة عمري كله ورفيقة مشوار حياتي ، أم أولادي وبناتي عشنا سويا أكثر من خمسة وخمسين عاما . كانت كل كلمة منه بدمعة ملؤها الحب المتدفق والشوق الكبير والعشرة الطيبة هدأنا من روعه وطمأناه عليها وأنها بإذن الله ستخرج سالمة معافاة ، فهنيئا لك ياصاحبة القلب الطيب بقلوب محبيك نموذج الحاجة فاطمة هو النموذج الذي يذكرني دوماً بأن هذه القلوب النقية هي فطرة الله التي فطر الله الناس عليها. ذكرها الله في قوله تعالى: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ". فطرة نقية لم تتلوث بفلسفات فارغة ، ولا مجادلات لا طائل منها ، ولا تعمق عقيم أو إستغراق فج يرمي بصاحبه على شواطيء الإلحاد والتيه ويفقده رؤية طريقه وتحديد هدفه. تعلمت هذه المرأة الصالحة في كتاب قريتها فرزقها الله بتعلم القرآن صحة الفهم وسلامة العقيدة وخشوع العبادة وحسن الظن بالله. إخواني وأخواتي.. ** إن القلوب النقية قلوب غرست فيها بذور الحب والتسامح والإيمان الصادق فأنبتت رضا ورحمة وسكينة وسعادة ونوراً على وجه صاحبها. ** إن علماً يمنعك من الوصول إلى الله، وفهم ملكوته والتدبر في خلقه وزيادة حبه وحب طاعته لهو الجهل بعينه. ** إن التوكل على الله والاستعانة به وحسن الظن به ركائز أساسية في سلامة عقيدتنا لا ينافيها الأخذ بالأسباب، بل هي تؤكد لنا أن ترك التوكل على الله كفر بالحق، وترك الأخذ بالأسباب جهل بالشرع. ** عبادة الله والتزام أمره لا تحتاج لقوة الأبدان فلا تتعذر بمرض ولا بضعف فرُبَّ ضعيف عاجز سبق سليماً معافى بذكر لسانه وخشوع بدنه وكثرة تذلّلِه، وصدق نيته. ** احذروا مضيعات الأوقات، فهي والله أغلى ما نملك، وألزموا أنفسكم بعمل صالح يرضي المولى، ورفيق صالح يعين على البلوى. اللهم اجعل قلوبنا عامرة بالإيمان.. واجعل نبضها في خدمة دينك وسكونها في سبيلك.. وارزقنا دوماً على درب الحياة من يزيدنا منك قرباً وفيك حباً ولك طاعة وعليك إقبالاً. اللهم اشف قلب الحاجة فاطمة وارزقني قلباً كقلبها. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :