التّرسّلُ بين الموتِ والحياة

  • 10/6/2017
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

ربما كان أمراً غريباً أن تجدَ اليومَ شخصاً يكتبُ إلى آخرَ رسالةً يضمّنها عباراتٍ من قبيل: «كتابي إليك - فاكتبْ إليّ - إني منتظرٌ جوابَك - وَصَلَ كتابُك - أطالَ اللهُ بقاءَك - هذا كتابٌ من فلان...» وغيرها من العبارات التي تَشعُر من خلالها بأنَّك تعيش في القرون الأولى للكتابة الترسلية، لذلك ليس غريباً أن نجد بوناً شاسعاً بين رسائل عبد الحميد، وابن العميد، ورسائل جبران، ومي، وغسّان، وإِنْ اتفقَ النمطان: القديم، والحديث في هدف الرسالة التواصلي. لقد انطفأت آثار هذا اللون الكتابي التراثي الجميل (الترسّل) وانطمست التقاليد القديمة للكتابة الترسلية، وبات الكاتب محتاراً بين إحياء هذا الجنس الأدبي، أو تجديده، ولا يعني ذلك التنكر لهذا النوع من الكتابة، أو التنصل منه، وبخاصة أن العصر الحديث شهد نماذج من المراسلات بين الأدباء، وهي نماذج على الرغم من كونها قليلة غير أنها تحفّز على إعادة النظر في هذا الجنس الأصيل، وهذا يعني أن علينا المواءمة بين الشكلين، ومحاولة التأليف بينهما، وذلك يكون باحتذاء القديم في بعض الأساليب، والطرق، والأشكال، وتوظيف ذلك توظيفاً معاصراً. وقد يرى البعضُ أن ذلك من الصعوبة بمكان، وربما يسألُ سائلٌ: كيف نجمع بين شكل قديم، وشكل حديث؟ ونقول في الإجابة عن هذا السؤال: بأننا لا شك نستخدم الرسائل في حياتنا اليومية بشكل متواصل، وكثير، إذ لا يستغني أحدنا عن التواصل بالرسائل، وهناك تنوّعٌ في رسائلنا اليومية، ما بين رسائل: مصورة، وصوتية، ومكتوبة، وهذا يشير إلى أن الرسالة - بوصفها شكلاً تواصلياً - تسير في توهج ملحوظ، بل أخذت ترتقي مع التطوّر الرقمي الذي نشهده اليوم، وهنا نقول: إننا صرنا لا نرى رسائل تراثية من قبيل: (كتبت إليك - كتابي إليك..) لكننا في الحقيقة ما زلنا في فضاء الرسالة، لم نَحِدْ عنه، وبذلك تكون الرسالة من أهم وسائل التواصل اليوم، وأصبح من الإجحاف أن نحكم عليها بالموت، وهي ما زالت حيّةً بيننا. أما على المستوى الإبداعي فقد خَفَتَ توهّج الرسائل في العصر الحالي، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها، ويجب علينا الاعتراف بأن الأدباء، والمفكرين، والكتّاب عموماً، قَلَّ توجّههم نحو هذا الجنس الأصيل، وبات استعمالهم له ضئيلًا، أو لا يكاد يذكر، على الرغم من توافر الوسائل الرقمية، كقنوات التواصل الاجتماعي التي يمكنها أن تتيح لهذا الجنس النهوض من جديد، ومزاحمة الأجناس الأخرى كالرواية، والقصة، إذا ما رام مؤلفوها جمعها، وإخراجها من عالمها الإلكتروني، إلى طبيعتها الورقية. وعلى غرار ما فعل عبد الرحمن منيف، ومروان قصاب باشي في رسائلهما الجميلة التي طبعت في كتاب حمل عنوان (في أدب الصداقة) وعلى غرار ما فعل الشاعران: محمود درويش، وسميح القاسم في (مراسلاتهما) يمكن أن يقوم صديقان، أو شاعران، فيما بينهما بكتابة رسائل أدبية، ومن ثمّ جمعها بين دفتي كتاب، سواء أكانت تلك الرسائل ورقية في أصلها، أم (إلكترونية) ما المانع في ذلك؟ بل إن ذلك يشجع على التأليف المشترك، أو الإبداع الجمعي، وهو ما تفتقده الثقافة العربية اليوم، على مستوى الإبداع وغيره، يضاف إلى ذلك أن مثل هذا الازدواج الإبداعي الذي تفرضه طبيعة الرسائل والأجوبة يسهم في تطوير النص النثري، ويكسبه صبغة أدبية، نظراً لما تمتلكه الرسائل من مقومات أدبية كثيرة، كالوصف، والسرد، والحوار، وغيرها، وهي مقومات لا شك أنها ستكون أكثر تفاعلًا إذا كانت بين اثنين. إن الرسائل المولودة من رحم رقمية هي فرصة سانحة لنمو الرسائل، وهي فرصة لتطوير دراستها؛ ومعلوم أن دراسة الرسائل بوجه عام تكاد تكون قليلة، وأن دراسة الرسائل (الإلكترونية) تكاد تكون أقل، ولعل هذا عائد إلى قلة الاهتمام بالرسائل أصلًا، وهناك نماذج كثيرة من الرسائل بين كثير من الأصدقاء، من الأدباء، والمفكرين، وغيرهم، ولكن لم يُلتفت لها، وبعضها يستحق أن يُتنبه له بمزيد رصد وعناية، وهي دعوة إلى كل مهتم بهذا اللون الكتابي لنشر إبداعه على شكل مجموعات رسائلية، وليس ضمن سير ذاتية، أو مذكرات، أو يوميات، وأظن أن مثل هذا الصنيع من شأنه تأسيس إبداع رسائلي جديد، ومغاير، سيضيف حتماً إلى الأدب الرسائلي خصوصاً، والعربي عموماً.

مشاركة :