آخر أيام «ماسبيرو»: الحزن يخيم على المكان والأهالي «زعلانين على الذكريات»

  • 10/6/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

على امتداد الشريط الطولي المواز لكورنيش النيل، تحديدًا في البقعة الواقعة بين وزارة الخارجية ومبنى الإذاعة والتليفزيون، هناك ما يعرف باسم «مثلث ماسبيرو»، كانت الشمس تلملم خيوطها الصفراء، فيما يجمع الأهالي ما تبقى لهُم من ذكريات داخل المثلث، قبل بدء الإجراءات الرسميّة لإخلاء تلك المنطقة، في إطار مشروع «تطوير مثلث ماسبيرو». دلفنا إلى داخل منطقة «مثلث ماسبيرو»، عبر شارع مفتوح على النيل، كان المشهد كالتالي، قهوة عتيقة تبث أغنية «بعيد عنك»، حيث يتباكى رواد المقهى على ذكرياتهم في المنطقة، بيوت شبه مهدمة، أحجار متناثرة يمينًا ويسارًا، بقايا شبابيك متدلية، نظرات قلقة يطلقها السكان الذين يعيشون وسط ممرات ضيقة للغاية، لا تسمح بمرور الهواء، ولكنها سمَحت بمرور نسمات «الجيرة والعشرة» الدافئة. «إحنا بقالنا عمر هنا، هنا منطقتي وناسي وأصحابي»، يقولها «كرم»، 45 عامًا، سائق سيارة أجرة، فيما يشير بحزن إلى المنزل الذى عاش فيه منذ كان صبيًا صغيرًا، حيث ولد داخل «مثلث ماسبيرو»، وعاش برفقة عائلته داخل منزل صغير، وصل إيجار الغرفة به نحو «15 جنيه». ورغم أنه ترك «مثلث ماسبيرو»، ويسكُن الآن داخل شقة تبلغ مساحتها 70 مترًا، في حي «الأسمرات»، الاختيار الثاني الذى وفرته الدولة لسكان المثلث، كبديل عن التعويض النقدي وحل التطوير، إلا أن «كرم» لم يستطع الابتعاد عن «المثلث»، قائلاً: «أنا بروح شغلي الساعة 6 ونص الصبح، الأسمرات بعيدة، لازم أنزل من البيت الساعة 5 عشان أقدر أوصل في ميعادي». وبجانب «كرم»، وقف شقيقه، «محمد»، 40 عامًا، سائق، الذى رفض الذهاب إلى «الأسمرات»، وفضّل الحصول على مبلغ مالي يُقدر بـ 100 ألف جنيه، يُشاركه في رواية الذكريات الحزينة عن هجر «مثلث ماسبيرو»، فبعد أن اعتاد الأخوان على العيش سويًا، كما يذكر أحدهما: «كنا بناخد بحس بعض»، افترقا وذهب كل منهم إلى مكان، يتأثر «محمد» للحظات، ثم يكمل: «زمان لما كنت أقول تعبان، ألاقي أخواتي عندي، لكن دلوقتي خلاص». يخيم الحزن على الأهالي، داخل «مثلث ماسبيرو»، رغم أن مخطط الحكومة لتطوير المثلث، تحت شعار «قلب جديد للقاهرة»، ليس وليد اللحظة، وإنما جاء بناءً على خطة حاولت الحكومات المتعاقبة تنفيذها، منذ نحو 13 عامًا، لكن يتم التراجع عنها في اللحظات الأخيرة بسبب غضب الأهالي، وتمسكُهم بأماكنهم. مع العلم أن السكان هناك، يعيشون تحت خط الفقر في ظل ظروف اقتصادية صعبة، الذين يبلغ عددهم وفق آخر حصر 3500 أسرة بإجمالى 14 ألف ساكن، بالإضافة إلى نحو 850 محلاً تجاريًا. على بعد أمتار من منزل الأخوين، جلست الحاجة، حميدة عبدالحميد، داخل حارة تعرف باسم «التعلب»، تبكي الأطلال، وتروى حكاية من عمر «مثلث ماسبيرو»، قائلة: «أنا جيت من بلدنا، عيلة بضفاير عندي 16 سنة، عشت وكبرت هنا، سكنت في أوضة وخلفت 8 أولاد». تلتقط «حميدة» أنفاسها بصعوبة، ثم تكمل كلماتها: «مات مني أولاد في البيت ده، وجوزت باقي العيال، وأهو دلوقتي دفنونا بالحياة»، رغم أنها أخلت الغرفة التى كانت تسكن بها، إلا أنها مازالت حزينة على الذكريات التى عاشتها داخل الحارة «إحنا هنا كبرنا، زعلنا، وفرحنا مع بعض». حصلت «حميدة» على تعويض مادي، بلغت قيمته 100 ألف جنيه، وهو ما وفر لها شراء غرفة في منطقة «الوراق» الشعبية، نقلت فيها الأثاث البسيط الذى تملكه ولكنها لم تستطع نقل الذكريات التى عاشت معها لسنوات، كما تذكر: «أنا لو مت مش هكون زعلانة زي دلوقتي، الرسول لما أهل مكة طردوه بكى، وأهو أنا ببكي دلوقتي عشان هخرج من هنا». أمام منزل متهالك، وقفت سيدة خمسينية، تعرفك بنفسها قائلة بإبتسامة «أنا الحاجة عائشة، أم لثلاث أولاد»، تخبرك عن تاريخ «مثلث ماسبيرو»، ولكن عندما يوجه لها أحدًا سؤال: «ساكنة هنا من قد إيه؟»، تنتفض قائلة: «من قد إيه؟!، ده حوالي 60 أو 70 سنة، أمي وأبويا مولودين هنا، وجابوني». بعكس معظم الأهالي، رفضت «عائشة» المقابل المادي، واختارت حل «التطوير»، ضمن سكان آخرين، أرادوا البقاء بالمنطقة، فيتم الخروج منها مؤقتًا لحين انتهاء التطوير، مع تسليمهم شيكات بقيمة إيجارات مقدمًا لمدة 12 شهرًا، لحين بناء العمارات، حسب الوعود الرسمية. وعن حل «التطوير» الذى فضلته «عائشة»، تقول: «أنا طلبت (تطوير)، مش عاوزه فلوس، أنا عاوزه أقعد هنا، أخواتي هيساعدوني وندفع للإيجار بعد كده، لكن مقدرش أطلع من المثلث». هناك جانب آخر من حزن سكان المنطقة، يتعلق بالأهالي الذين يمتلكون محال تجارية، فلم يتحدد وضعهم بعد، مثل الرجل الأربعيني، ورب الأسرة، إبراهيم محمود، الذى وجدناه يتسائل عن مصيره، داخل محل «ترزي» متواضع، ورثه عن والده، قائلاً: «صحيح هيعوضونا عن السكن، لكن مين هيعوضنا عن ذكرياتنا وعمرنا؟».

مشاركة :