يعتقد كثير من الناس، خطأ، أن الحماقة لا تتلبس إلا البسطاء رثي الثياب، لكن الوقائع الداحضة تقول إن الحماقة بلاء لا انتقاء فيه ولا عنصرية ولا حدود، يمكن أن يتلبس الحارس وسائق التاكسي والمدرس ورجل الأعمال الثري أو سائقه الفقير أو المدير أو موظفه أو مفكراً وأديباً. والأدهى والأكثر إذهالاً أن شياطين الحماقة الشمط تتلبس أيضا علماء دين «نزيقين» جداً..!. ليس أكثر كاريكاتيرية ولا هزلا من عالم دين يطل ببهائه ووقار لحيته في شاشة تلفزيون، وبدلاً عن أن تهب رياحين الجنة من كلماته وعلمه وسماحته وحكمته وفتواه، يتحول العالم الجليل إلى واحد من «صبيان الحارة المشاغبين»، فيطفق يهاجم السائلين الحيارى ويرجم الناس يميناً ويساراً ويشتم ويسيء الأدب والحكمة والقول، بل «يقيف» الفتوى وفق حالته ومزاجه وسورته وهو في ذروة العصبية او الجهل. لكل ما سبق، لن استغرب إذا ما اتصل سائل بالشيخ العراقي المقيم في دولة الإمارات أحمد الكبيسي أن يفتي بما ليس مقبولاً ولا معقولاً، لأن الشيخ يظهر في كثير حالاته، على خلاف وقار العلماء، «معصب» ومتغطرس و«عدائي» ولديه أحكام مسبقة جاهزة يرجم بها عباد الله الآمنين. والمرة الأولى التي انذهلت فيها أن يستبد الحمق وسوء الأدب بما يفترض أنه عالم، قبل سنين حينما اتصلت بالكبيسي سيدة تسأله وحاولت محاورته استفهاماً، وبدلاً عن تبصيرها برفق الأب ووقار العالم، تهجم عليها قائلاً بنحو «أنت مالك وهذه الموضوعات.. إذهبي إلى مطبخك وأطبخي..»..!.. عندها أذكر أنني تساءلت: كيف يكون هذا عالم دين.. وكيف يكون استاذا في جامعة..! يعني الشيخ يتحدث إلى الناس ويودهم أن يحاوروه «على هواه» وحسب مزاجه. ومرة سئل حول بطاقة الفيزا، وبدا واضحاً أنه لا يعلم ما هي الفيزا ولا المقصود بها ولكنه «مشى الحال» و«أفتى» بـ«ترك هذه الاشياء» أو ما يشبه هذا القول..! ولم يدر بخلدي أن تتطور حماقات الشيخ من «مصاولة» النساء و«ترك هذه الأشياء» وصراخه المؤذي المنفر، إلى أن يتكوم كلياً في أحضان الميلشيات ويتبرع قصداً أن يكون ناطقاً عاطفياً ومتكلماً باسم الأحزاب والتحزبات المعادية تاريخياً وراهناً للعرب والأمة العربية. وإذا كان الكبيسي يثق أنه عالم دين فإن عليه أن يعترف أن ترويجه المستمر للتعريض بـ«الوهابية» وتشويه دعوة التجديد، والنيل من الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله إنما ترسم الكبيسي موظفاً سياسياً لدى الأحزاب المناهضة للأمة العربية. لأن دعوة ابن عبدالوهاب وفتاواه لا تخرج عن مناهج الأئمة الأربعة وتابعهم أحمد بن تيمية، والشيخ ابن عبدالوهاب ليس معصوماً ويمكن أن يجتهد في الفروع يخطئ ويصيب، ويمكن أن يختلف معه مثلما اختلف الأئمة الأربعة اجتهاداً. ويجب تصور بيئة الشيخ آنذاك، والظروف المحيطة، كي نستطيع الحكم بصورة دقيقة على اجتهاداته في ذاك الزمن والضرورات التي حتمتها، وربما بعضها تناسب زمانها وظروفها، وقد لا تكون ضرورية في زماننا هذا، لكن أن يوصم الشيخ ابن عبدالوهاب بأنه متآمر، وهو قد تحمل الصعاب والتهديدات والمقاطعات، فهذه فرية لا يرضاها كل لبيب وكل ذي قلب سليم، فضلاً عن شيخ يتحدث لجماهير ويفترض أن يحاسب نفسه على كل كلمة خشية أن يزل أو يأثم. وكان يجب على الكبيسي وغيره أن يعلم أن الإخراج «المسرحي» السياسي لـ«الوهابية» جرى أيام الدولة العثمانية، فكان الباب العالي يسمي دعوة الشيخ بـ«الوهابية» قصداً وخبثاً لإعطاء صورة مفتراة أنه مبتدع، ولم يكن الهدف غيرة على الدين وإنما كان سياسياً لإجهاض مشروع الدولة السعودية الأولى وإسقاطها خشية أن تحرر الحرمين الشريفين وتفصلها عن الدولة العثمانية مما يفقد الباب العالي شرعية الخلافة، وهي أداة سياسية مهمة لتطويع الأمة وموالاة الشعوب الإسلامية لآل عثمان. ووظف العثمانيون كل بوق واختلقوا قصصاً وروايات وتقولوا على الشيخ، ببروباجندا سياسية عنيفة. وعلى مر السنين كان كل من يود النيل من الدولة السعودية سياسياً يعرض بدعوة الشيخ ويشوهها بهدف سحب شرعية الدولة السعودية. واستمرت البروباجندا تنتقل من بلد إلى بلد ومن جاهل إلى مجهول حتى تلبست الشيخ الكبيسي. وترويج الكبيسي الصريح للربط بين ميلشيات الغلو والتكفير ودعوة ابن عبدالوهاب، افتراء مقصود وحرب باطنية صريحة لأمة كاملة. فإذا كان بضع مئات من السلفيين انتهجوا الشذوذ والتكفير والفظاظة وسوء التدبير، والشواذ موجودون في كل فكر ودين وعقيدة وفلسفة، فإن مئات الملايين الذين يقلدون اجتهادات الإمام أحمد بن حنبل والشيخ محمد بن عبدالوهاب، يخطئون التكفيريين والغلاة ويتبرأون منهم. وأجل ما أنجز الشيخ محمد بن عبدالوهاب، هو أنه لولا تجديده التاريخي للدعوة لكنا الآن، ومئات الملايين، نتزاحم زحفاً إلى القبور والأضرحة نستغيث بموتى لا يملكون من أنفسهم شيئا، ولكانت مساجدنا معارض صور ومتاحف للأولياء، ولصرفنا أثمن الأموال على النذور والبدع، ولكنا الآن نطوف أفواجاً حول شجرة الطرفية الشهيرة. وإن كان الكبيسي صادقاً أحرى به أن يتصرف بأذكى وأكبر من أن يكون مطية لأحزاب سياسية تتاجر بكل شيء حتى في الدين، وأن يعزف عن ترديد ما يتفوه به الجهلة والمرضى والمغرضون. وإذا كان الكبيسي عالم دين حقيقيا وصادقا فإننا سنكبره إن تراجع ودقق في أسلوبه، وانتهج الوقار والتدقيق في العلم والمعلومات وأخذ الصحيح، وإن لم يوافق هواه، وترك القبيح وإن داعب شياطينه «المعصبين» دائماً. *وتر هذا الشيخ البهي محمد بن عبدالوهاب.. يسافر فقيراً رث الثياب.. غنياً بنور الله.. يعبر المفاوز والقفار، معوزاً إلا من روح متطلعة.. يطوف السهوب وقرى ومدنا وبلدانا ومقامات علماء.. مجاهداً نفسه وبنفسه كي تكون كلمة الله هي العليا.. وكي تفيض بركات الله وسلامه صافية من أي زيغ.. وتعمر قلوب مؤمنين بالله واحدا أحداً، لا شريك له ولا ولي ولا رفيق.. يا شيخنا البهي.. جزاك الله سلام الجنان، إذ كنت المجاهد والمعين أن نخرج من ظلمات الضلال إلى النور..
مشاركة :