د. ناصر زيدان الاستفتاء على الاستقلال الذي جرى في كردستان العراق في 25 سبتمبر/أيلول 2017 أخذ أبعاداً خطِرة، وأحدث تغييرات كبيرة في الخريطة الجيوسياسية في المنطقة، وقد يُنذر بحدوث تداعيات سياسية، أو عسكرية غير محسوبة، تؤدي إلى إعادة إنتاج توتر، كنا نعتبر أنه في طريقه للانحسار في إقليمٍ لم يعرف الاستقرار منذ ما يزيد على الأربعين عاماً. لكن الصورة المرسومة للمشهد التي سبقت الاستفتاء، واستمرَّت إلى ما بعد حصوله؛ كان فيها بعض التشويه، وربما لم تُظهِّر الواقع على حقيقته. فقد تعامل البعض مع الاستفتاء كأنه حرب عربية - كردية. في واقع الحال، أن الاستفتاء الكردي كان حدثاً قاسٍياً في العراق خاصة، وفي المنطقة المجاورة أيضاً، وهو بطبيعة الحال يضرّ بالمصالح العربية العليا، خصوصاً في العراق وسوريا، البلدين العربيين اللذين يعانيان ويلات الحروب والنزاعات منذ سنوات، وذاقا مرارات التدمير والتهجير والإرهاب، وعدم الاستقرار، وتداعيات استقلال كردستان ستكون مؤلمة على البلدين، لأنه سيعرِّض العراق للتقسيم الفعلي، وسيفاقِم الأزمات الجيو أمنية في سوريا، وربما تتولَّد عنه أزمات متفرِّعة لم تبرُز جليةً حتى الآن. رغم هذه الانعكاسات المتوقعة للاستفتاء على الساحة العربية، ورغم حالة الخوف التي اعترت بعض الدول العربية بعد حصول الاستفتاء - وقد ساهمت في خلق هذا الجو مواقف لها حسابات خاصة - لكن خسائر الاستقلال الكردستاني لن تُدفع من بيت المال العربي فقط، بل إن مصالح الدول الإقليمية الكبرى هي الأكثر تضرراً من هذا الاستقلال. وتوزيع أراضي مملكة كردستان في العام 1924، كان لخدمة مصالح إيران وتركيا أولاً، ولتحقيق أطماع فرنسية - بريطانية لَحَظتها اتفاقية سايكس - بيكو عام 1916، ومعاهدة سيفر في العام 1920، ومن ثم معاهدة لوزان التي عُدلت بموجبها اتفاقية سيفر التي كانت أقل إجحافاً بحق الأكراد في العام 1923. من الثابت أن تركيا هي المتضرر الأول من استقلال كردستان، لأن أكثر من 14 مليون كردي تركي سيطالبون بالالتحاق بالدولة الفتية، وهؤلاء يعيشون على اكثر من 30% من الأراضي التركية، وأغلبيتهم الساحقة لا تكنّ الود لسلطات أنقرة، منذ المجازر التي ارتكبت بحقهم في العام 1920، وصولاً للتهميش الذي يشعرون به في ظل حكومة أردوغان اليوم. وإيران هي المتضرر الثاني من الاستقلال الكردي، وأكرادها السبعة ملايين؛ كانوا أكثر اغتباطاً من عملية الاستفتاء، وتحدوا سلطات طهران، واحتفلوا عند إعلان نتائج الاقتراع. ويأتي العرب - وتحديداً العراق، ثم سوريا - في الدرجة الثالثة من حيث ضرر الاستفتاء، ذلك أن إقليم كردستان العراق له ما يُشبه الاستقلالية ضمن الفيدرالية العراقية، ومارس الإقليم شكلاً من أشكال الاستقلال منذ الاحتلال العسكري الأمريكي للعراق في العام 2003، ودستور العراق في المادة 140 أشار إلى حق تقرير المصير للمجموعات المكوِّنة للشعب العراقي ضمن وحدة أراضي الدولة. من حق السلطات العراقية المركزية في بغداد الاعتراض على عملية تنظيم الاستفتاء ونتائجه، لكونه حصل من دون تنسيق، وعلى اعتبار أن مبدأ الانفصال مرفوض، لأنه يُهدد فعلياً وحدة الدولة ومصالحها، خصوصاً أن مناطق عدة متداخلة بين أراضي العرب واليزيديين، وبين أراضي إقليم كردستان، ومدينة كركوك ومحيطها حجر الزاوية في هذه الأزمة، لأن سكانها خليط من العرب والأكراد والتركمان والآشوريين، وهي ثاني اهم مركز نفطي في العراق، وبالتالي لا يمكن لأي من الطرفين العربي والكردي التنازل عنها للطرف الآخر. وقد بدأت الأزمة بين السلطات المركزية في بغداد وبين سلطات إقليم كردستان من كركوك بالذات، لأن حكومة أربيل تتهم حكومة بغداد بالتوقف عن تسديد حقوق العاملين في الشركات النفطية من الأكراد، وعدم تسديد رواتب البيشمركة، وكذلك إقالة محافظ المدينة، بينما الحكومة المركزية بقيادة حيدر العبادي تتهم سلطات أربيل بقياد مسعود البرزاني بأنها تجاوزت صلاحياتها في موضوع الأمن، وفي ملف استثمار النفط، وتتخلف عن التنسيق مع بغداد، كما ينص على ذلك الدستور.الخيارات المطروحة على مُستقبل الأزمة في كردستان متعدّدة، منها خيار التطويع والتجويع الذي تتبناه تركيا وإيران، وهذه الخيارات ستنتج عنها حروب دامية بطبيعة الحال، وسيدفع ثمنها غالياً الأكراد والعرب. أما الخيار الأكثر واقعية لحل الإشكالية القانونية والدستورية في العراق، ولحفظ حقوق ومصالح العرب والأكراد في العراق فهو الحوار.كان يُمكن لمسعود البرزاني تأجيل الاستفتاء استجابة لدعوات أصدقاء له ولدول متعددة. أما أننا وقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه في غمرة الحماسة القومية الكردية؛ فيجب ألا يقود التهوّر إلى أزمات بين العرب والأكراد لا تُفيد أحداً، علماً بأن التعاون العربي - الكردي هو القاعدة عبر التاريخ، أما الخلاف فهو الاستثناء. وليبحث الأكثر تضرراً من استقلال كردستان - أي تركيا وإيران - عن حلول للأزمة لا تكون على حساب المصالح العربية.
مشاركة :