دبي:«الخليج»حين يبدو الحب ماكثاً في النفس من أعوام وأعوام، لا يغيره جريان الزمن ولا تقلباته، يستحق أن يذكر مثالاً للحب الصادق والأصيل، وهذا المعنى هو ما يجسده صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في قصيدته الجديدة «مشبِهك»، التي يبتدئها بتلك الذكرى الوفية حين يقول:أذكركْ في نفسي مِنْ اعوامْ واعوامْ ياليتْ تذكرني فْ نفسكْ دقيقهْوتلك الثنائية التي تضمنت المفارقة الزمنية بين الأعوام والدقائق، تبدو إشارة ذكية إلى فعل الزمن وتقلباته، ونسبيته بين الحضور والغياب، والذكرى والنسيان؛ إنها إشارة تحيل المتلقي مباشرة إلى التساؤل بشغف ودهشة عن سر هذا الحب النادر وعن ماهيته وتفاصيله، حيث يجيب سموّه:بي شوقْ منكْ يزلزلْ الرّوحْ هدَّامْ حتَّى الجبَلْ مِنْ شدِّتهْ ما يطيقَهْورغم القوة والعنفوان، تبقى المشاعر والأحاسيس قادرة على تغيير طبيعة الإنسان مهما بلغت عزيمته ونقله من حالة الصلابة إلى الإحساس الفائق برقة مشاعره، تلك الحالة يصفها سموّه بالقول:وأنا بشَرْ عندي أحاسيسْ وأحلامْ لوُ بي عزومْ ترىَ المشاعرْ رقيقَهْوفي صورة مجازية بليغة، يحكي سموّه عن قسوة الحبيب حين ينأى بجانبه عن محبوبه، فيغدو فعله رغم أنه لا ينتمي للإجرام، كما هو مستهجن عادة في الأمور الحياتية، إجراماً في حق القلب ومشاعره، يقول سموّه:وهذا الذي إنتهْ تسوِّيهْ إجرامْ لوُ كانْ منْ والي يشوفْ الحقيقَهْلمنْ أنا بشكيهْ ظلمكْ والآلامْ وقاضي الهوىَ مِنْ هيبتك جَفّْ ريقَهْياهيهْ نشبهْ ضاعْ حقِّي ولارامْ حدٍّ يساعدني وما منْ طريقَهْغير أن الجفا والصدود والنأي، لم تمنع محبّاً منذ أن خلق الله الحب من الاستمرار في حبه، ومن التوله واتخاذ قلب الحبيب رفيقاً، هكذا هي طبيعة الحب وفطرته، وفلسفته التي استمر عليها البشر منذ العصور السحيقة، لذلك يعبر سموّه بطريقة فنية محكمة عن تلك الجدلية فيختزلها قائلاً:يا كَنْ ما في الشَّامْ ياغيرْ غشَّامْ وإنتِهْ لقلبي رغمْ غدركْ رفيقهْغير أن الشاعر يأبى إلا أن يكمل قصيدته بطريقة إبداعية تجعل المتلقي يعود إلى بداية القصيدة، ويتسلسل معها ليفسرها تفسيراً أعمق في كل قراءة جديدة لها، إذ يطرح ما يشبه اللغز في الأبيات الأخيرة، يختزل مشابهة أو مماهاة بين وصفه للمحبوب وشيء يدفع المتلقي للتأمل والتفكير، يقول:بسألكْ عَنْ شيٍّ مهمٍّ في الإسلامْ بدايتهْ وياَّ العصورْ السِّحيقهْيجري بلا رجلينْ إِنْ كنتْ فهَّامْ ما شَيْ يقدَرْ عَنْ مسيرهْ يعيقهْيشبهكْ في وصفكْ ولهْ عينْ وأنسامْ ولوُ هوُ رقيقْ إذا فتَنْ ما نطيقَهْهنا سيتوقف القارئ مجدداً ليتساءل مشدوهاً: ما هذا الشيء المهم جداً في ديننا الإسلامي، ويمشي بلا رجلين، ولا أحد يستطيع إيقافه عن مسيره؟.ثم ما هذا الشيء الذي يشبه ذاك الحبيب القاسي ويشبه تقلباته وغدره، ويشبهه في لطفه ورقته ونسائمه حين يقبل؟ ربما أقرب تفسير يمكن لأي قارئ متمعن أن يقدمه لذلك اللغز الجميل الإبداعي هو أن سموّه يسأل عن الزمن، فهو من أهم الأشياء في ديننا الإسلامي، لأن حياة الإنسان زمن، وهو مسؤول شرعاً عن إنفاقها وبذلها في المفيد، وفي ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، وسيحاسب إن فرط في زمنه.ثم إن الصور البلاغية الكثيرة المنتشرة في الشعر والأدب العربي، منذ بداياته وحتى اليوم، تتناص في صورة بلاغية تصف الزمن بالغدار والقاسي، حين يدبر بعد إقباله ورقته ونسائمه اللطيفة الرقيقة.هنا وأمام هذه النهاية - البداية التي أبدعها سموّه، يعود القارئ مباشرة إلى عتبة النص أي إلى العنوان، ليبدأ في قراءته من جديد، وبوعي مختلف، وإحساس آخر، ونمط من التأويل جديد ومدهش، وفي كل قراءة جديدة نشعر أن القصيدة مكتوبة من شغاف القلب.
مشاركة :