كان المجتمع السعودي يتطور بهدوء طبيعي حتى جاءت الطفرة الاقتصادية (النفطية) منتصف السبعينيات ورفعت مستوى المعيشة بحدة.. بعدها ببضعة سنوات جاءت ظاهرة دعاة متشددين وتمددت إلى المشهد الثقافي وحازت نفوذاً هائلاً إعلامياً وتعليمياً، قبل أن تخبو وتنطفئ. هل الطفرة في تحسن مستوى المعيشة مهدت الطريق لظاهرة «الصحوة»؟ الإجابة تحتاج تحليلاً منهجياً وليس انطباعياً. المناهج في تفسير ظاهرة التطرف تتخذ عادةً طريقتين: الأولى تنظر من فوق إلى أسفل عبر البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي المسبب للتطرف؛ فيما الأخرى تنظر من أسفل إلى فوق، في جذور الحالة عبر دوافعها الانفعالية والعلاقات بين الأفراد والجماعات وخلفياتهم ونفسياتهم. المنهج الأول في تفسير ظاهرة التشدد الديني التي أنتجتها «الصحوة»، هو السائد، بالتركيز على العلاقة الظاهرية المباشرة بين كثرة دعاة الصحوة في الثمانينيات والتسعينيات وانتشارهم في المساجد والمحافل، وبثهم لفكرهم عبر الكاسيت آنذاك ثم لاحقاً عبر الإنترنت، وتغلغلهم في النظام التعليمي..إلخ. هذا التفسير لا يكفي رغم أنه يوضح جزئياً ظاهرة التطرف، إذ كيف نفسر أن نسبة كبيرة من الداعشيين في العراق وسوريا أتوا من بلدان لا تزدهر فيها الخطابات الأصولية كتونس والجزائر، والدول المسلمة التي ظهرت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، بل ومن دول أوربية!؟. من أخطر طرق التحليل هو الاكتفاء بربط الأحداث المجتمعة زمنياً أو مكانياً كسبب ونتيجة دون الأخذ بالاعتبار لعوامل أخرى علاقتها بالظاهرة غير مباشرة. وهنا سأنتقل للمنهج الثاني في التفسير.. الارتفاع الحاد في مستوى المعيشة تبعه انتقال حاد في نمط المعيشة، وأسلوب الحياة، والنظم والعلاقات الاجتماعية مما فاجأ كثيراً من الناس في هويتهم الاجتماعية القديمة، فالروابط والأواصر القديمة اهتزت، وبعضها انقطعت في زحام المدن المتنامية. قبل الطفرة كان هناك استقرار في الأنماط الاقتصادية.. كان الأبناء على وظائف آبائهم من موظفين أو تجار أو زُرَّاع أو صُنَّاع أو رعاة.. كل ذلك تحول إلى وظائف جديدة ومتجددة بلا هوادة، وعانى البعض من عدم استقرار وظيفي رغم تحسن الأحوال المادية. كذلك، أسلوب الحياة تبدل وبدأ يأخذ الطابع الاستهلاكي صاحبه لهاث مادي ومعنوي للحاق بالمتطلبات الاجتماعية الجديدة.. صار نوع السيارة وماركة ساعة اليد أو الشماغ يشكل هوية جزئية بديلة عن السابقة. في خضم حالة من الاهتزاز والقلق والاغتراب ظهرت رغبة في البحث عن طريقة للاستقرار النفسي والاجتماعي، والبحث عن هوية اجتماعية مستقرة أو محاولة العودة للهوية القديمة. وفي ذات الوقت كان هناك قلة من دعاة بخطاباتهم الأصولية الرافضة للتجديد الثقافي وللتفكير العقلاني، داعية للعودة إلى الماضي ومغلقة الباب أمام الانفتاح الثقافي.. وخوفوا الناس بأن من لا يتبعهم سيدخل نار جهنم. وتنامى عدد هؤلاء الدعاة مع تنامي الانجذاب لهم وشكلوا ظاهرة «الصحوة». لماذا ينجذب بعض الناس لمن يخوفهم رغم أن الوضع المعيشي يتحسن؟ لأن الخوف عنصر غريزي من العناصر الأساسية للبقاء؛ وهو صحي للموازنة العقلانية بين المنفعة والضرر، لكن استغلاله لترهيب الناس في الظروف الغامضة قد يُعمي عن الموازنة العقلانية. فالخوف من مجتمع جديد غير قابل للتوقع وخارج عن تفكيرنا المألوف، والأخطر أنه خارج عن السيطرة الاجتماعية المعتادة.. جعل البعض ينجذب للخطابات الأصولية وتنامى الطلب عليها. هناك فرضية علمية تقول إن التطرف الديني ليس نتيجة كثرة دعاة الفكر الديني المتشدد بل نتيجة طلب عاطفي حاد يبحث عن الخلاص عبر فكر متشدد دينياً كان أو دنيوياً.. إنه «ظاهرة يحركها الطلب»، كما يقول صاحب هذه الفرضية البروفيسور روبرت بيب، في كتابه «Dying to Win»، مستنداً على دراسة شاملة حلل فيها جميع التفجيرات الانتحارية المعروفة بالعالم من عام 1980 حتى 2003م.. فالطلب هو المحرك الأول وليس العرض. من أين يأتي هذا الطلب؟ توضح الدراسات الأخيرة أنّ ظاهرة التطرف مرتبطة بالثقافة أكثر من الاقتصاد. فالخوف من تهديد الثقافات الجديدة للمهاجرين على الهوية الوطنية ونمط المعيشة كان هو الدافع الحاسم في انتشار وشعبية الأحزاب القومية المتطرّفة في أوربا، وليس سوء الأوضاع الاقتصادية أو الانزعاج من منافسة المهاجرين على الوظائف (تقرير شاتام، 2012). وتوضح إحدى الدراسات أنّ القلق على الوحدة الثقافية للبلد كان تسعة أضعاف حجم القلق من الجريمة، وخمسة أضعاف القلق على الاقتصاد القومي (Ford Goodwin, 2010). الخوف على الهوية هو أساس التطرف، حين يُهدد التجدد الثقافي السريع الثقافة المحلية. طرح كانيمان (فائز بجائزة نوبل للاقتصاد) وتفرسيكي عام 1980م نظرية «الاحتمال»، بأنه في الظروف غير اليقينية يتخذ الناس قرارات قد لا تبنى على أسس عقلانية. لقد وجدا أن أغلب الناس يكرهون المجازفة عندما يتوقعون الربح القليل، لكنهم يجازفون عندما يتوقعون الخسارة. لذا عندما بدأنا بتوقع الخسارة من قيود الخوف التي أسستها «الصحوة» خرجنا إلى آفاق رحيبة، هذه الآفاق يفتحها برنامج التحول الوطني 2020 ورؤية المملكة 2030؛ فبدل الخوف من الحاضر والنكوص إلى الماضي انطلقت الرؤية إلى المستقبل عبر تشجيع عقول المواطنين لا تخويفها، وتحفيزها بما تملك من قدرات هائلة لا إحباطها بما لديها من ضعف.. فما تستقبله سيغذي عقلك.
مشاركة :