عندما وضعت أسس ما يسمى بـ«العولمة» لم يحذر الكثير من الخبراء من عواقبها ومخاطرها فحسب، بل أيضا من تأثيرها على قواعد دور الاقتصاد وحركة المال في العالم. فالعولمة عملية تتكثف فيها العلاقات العالمية على مستويات كثيرة وعالية، وهذا يخلق شبكة؛ لا مواقع معروفة لها ولا مقرات، وذلك في مجالات كثيرة منها الأعمال والمال والاقتصاد. ولقد وصفها خبراء ألمان بتعبير «الموندياليزيرونغ» أي تغييب أو محو المصلحة الوطنية لكل دولة؛ ما يعني فقدان سلطة الدولة الوطنية الفردية وأهميتها لتحل محلها سلطة المؤسسات العالمية العملاقة.وحسب المفاهيم التي وضعت، فإن العولمة تعني جعل الأشياء عالمية ودولية الانتشار في مداها أو تطبيقها، لتكون قادرة على وضع قواعد خاصة تناسب مناخات معينة لا علاقة لها بأي تغييرات محلية؛ بل تتأثر بسياسة المؤسسات المهيمنة، وبهذا تزول كل الروابط وتزاح الأسوار والحواجز.ومع أن مجموعة من الدول الرأسمالية المتحكمة باقتصاد العالم شهدت نموا كبيرا جعلها تبحث عن مصادر وأسواق جديدة، إلا أن التطورات التي دخلت إلى قواعد العولمة قلصت من سلطتها، لتصبح السلطة وقواعد النمو بيد مؤسسات دولية وبنوك قارية غير محددة المكان والجغرافية، ولها اليد الطولى عندما تتطلب الأوضاع وضع قواعد إضافية أو جديدة للعبة، وكل ذلك من أجل دمج سكان العالم في مجتمع عالمي واحد تتحكم بدساتيره وأسسه بالأخص على المستوى الاقتصادي والمالي والحياتي، وحتى الثقافي.مقاييس العولمةولقد ركزت تحذيرات الخبراء المعارضين للعولمة يومها على بعض المقاييس الخاصة بها، ومن أهمها مخاطر ازدياد الحرية الاقتصادية التي تأثر مباشرة على الدورة الاقتصادية في العالم وازدياد قوة العلاقات بين أصحاب المصالح الصناعية في مختلف البقاع، فهذه المقاييس تسمح باستخدام أساليب معقدة لمراوغة القوانين والمقاييس المحلية.ويرى معارضون أن مروجي العولمة أخفوا مساوئ كثيرة، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك، فإذا تحدثنا على سبيل المثال عن الناحية الاقتصادية والمالية، فهي تسمح باستفراد المؤسسات الكبرى والدولية العملاقة باستغلال دول في العالم الثالث لأخذ المواد الخام، بعد أن كانت تقوم بذلك بلدان مستعمرة، وهذا يؤدي إلى جعل الاقتصاد بيد قلة مسيطرة.العولمة ليست جديدةوبناء شبكة لربط اقتصاديات العالم وحركته المالية ليس جديدا، حيث تشير مراجع دولية إلى أن التفكير بوضع قواعد لها بدأ في منتصف القرن العشرين على صعيد الدول الفردية من أجل حماية مصالح المؤسسات العالمية، بالأخص بعد أن أصبحت الحاجة ملحة إلى تكوين شبكة بعيدة عن المؤثرات التي تدخل القلق إليها، مثل الحروب والاضطرابات الأمنية.والتفكير كان في وضع أسس للسيطرة على استيراد وتصدير المنتجات غير المتوفرة وضمان فائضها الخاص الذي يمكن أن يكون مربحا، لكن وضع قواعد وأسس كان عملية شديدة التعقيد، وبالتحديد خلال الحروب، حيث إن المؤسسات العملاقة والدولية لم يكن بإمكانها كبح جماح انعكاس الأزمات على أسواق المال والإنتاج العالمي.وهذا ما حدث نتيجة الحروب والاضطرابات الأمنية سابقا، والتاريخ شاهد على ذلك، فالحربان العالميتان الأولى والثانية جعلتا أسواق المال في الحضيض، وشهد العالم انهيارات مالية خطيرة جدا، وظل تأثير الأزمات والاضطرابات يلقى بظلاله مهددا بأزمات مالية خطيرة، وهذا ما شهدناه فيما بعد.فقد تسبب غزو العراق للكويت في أغسطس (آب) 1990، في ارتفاع حاد لأسعار النفط مقابل شبه انهيار لمؤشر داو جونز بنسبة تجاوزت 18 في المائة خلال ثلاثة أشهر فقط، وركود اقتصاد عالمي استمر بعدها نحو 8 أشهر. وفي 27 من شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 1997، أصاب سوق الأسهم العالمية انهيارا آخر نتيجة أزمة اقتصادية في آسيا. وفي الثاني من أكتوبر من العام نفسه، هجر المستثمرون الأسهم الآسيوية الناشئة؛ ما أحدث بلبلة خطيرة في أسواق المال والبورصات.كما خلفت هجمات 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001 انخفاضا حادا جدا في أسواق الأسهم العالمية. فالهجمات بحد ذاتها تسببت بنحو 40 مليار دولار في خسائر التأمين، إضافة إلى الآثار الاقتصادية العالمية؛ مما يجعلها واحدة من أسوء الأحداث في تاريخ أسواق البورصة العالمية.منحى جديدهذه المخاطر وغيرها دفعت المؤسسات الكبرى والدولية العملاقة والمصارف القارية إلى التفكر بميكانيكية تجعل مصالحها بعيدة عن تأثيرات أي نوع من الاضطرابات أو الحروب بغض النظر عن مكان اندلاعها، مستفيدة من قواعد العولمة التي وضعتها هي بنفسها، وانعكاسات هجمات 11 سبتمبر 2001 كانت أحد أهم الحوافز لذلك.ومع أن أزمة العقارات في الولايات المتحدة عام 2008 كانت صعبة بالنسبة لأسواق المال العالمية، حيث أدت إلى إخفاقات مصرفية في أوروبا وصعوبات في أسواق المال الأميركية بانخفاض قيمتها، إلا أنها كانت الانطلاقة الحقيقية للدخول في استراتيجية حمائية تؤمّن حماية مصالحها من أي انتكاسة أمنية أو اضطرابات خطيرة.ولقد ساعد تطور التكنولوجيا مساعي هذه المؤسسات العملاقة على تنفيذ خططها، فبعد العصرين الزراعي والصناعي، كان انتشار المعرفة وتكنولوجيا المعلومات منذ الثمانينات محور التركيز وتوج ذلك بدء العصر الرقمي. لذا؛ تستثمر هذه المؤسسات مبالغ ضخمة من المال لتأمين معرفتها للأضرار مسبقا وما ينطوي عليها من مخاطر وتبعات هائلة، كذلك الوصول إلى أي نوع من الموارد الرقمية.هذا التحول والتطور واللامركزية في سوق المال أكد، حسب رأي أكسل مولر مونستر، خبير أسواق البورصة في فرانكفورت، أن الحروب والأسواق المالية تسيران اليوم على دروب مستقلة ومختلفة تماماً، لا تأبه الواحدة بالأخرى. صحيح أن التوترات العسكرية الراهنة بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأميركية وغيرها من الحروب المتوقعة، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط، تترك انطباعاً سلبياً لدى مستثمرين، بيد أن المخاطر الجيوسياسية، اعتماداً على تحليله، حتى ولو كنا نتحدث عن صراعات بالقنابل الذرية، لن ترعب أسواق المال في العالم.. ويعود السبب الرئيسي لعدم اكتراث البورصات العالمية لما يجري حولها من أحداث أمنية وإرهابية وعسكرية وغيرها، إلى جبال من الأموال السائلة التي تغذيها كل يوم.ويضيف مولر مونستر القول: «لا شك في أن هذه الأموال مصدرها موازنات الشركات المالية الضخمة وصناديق الأسهم الخاصة (برايفت ايكويتي)، وحقائب المستثمرين الدوليين المكتظة بالمال. هذا ووصلت جبال الأموال السائلة إلى مستويات غير مسبوقة إلى الآن، ويمكن القول إنه في الحقيقة، بدأت جبال الأموال هذه تعلو أكثر فأكثر، خصوصاً في الأعوام العشرة الأخيرة، تزامناً مع سياسات المصارف المركزية التوسعية التي لا تزال تدعم البورصات الدولية مهما حصل حولها من أحداث واضطرابات ومصائب. ولو أضفنا إلى جبال الأموال هذه الثقة العالية بانتعاش الاقتصاد العالمي لوجدنا أن البورصات أضحت قلعة «محصنة» من كافة النواحي أمام الأخطار». من جانب آخر، يفيد خبراء بورصات أوروبية عدة أن الأرقام تتحدث وحدها من دون الحاجة إلى أي دليل آخر. فالشركات المستوطنة في منطقة «ايميا»، أي أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط، لديها اليوم ما مجموعه تريليون يورو سيولة مالية، أما سيولة الشركات الأميركية، التي يتم التداول بأسهمها في بورصة «وول ستريت»، فترسو على 1.8 تريليون دولار أميركي، ومنطقيا، كان ينبغي على هذه الشركات الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي.في سياق متصل، يفيد الخبراء في مصرف «يو بي اس» في سويسرا أن الشركات حول العالم أنفقت في عام 2013. أكثر من 3 تريليونات دولار أميركي على شكل استثمارات وأنشطة بحثية. لكن وفي الفترة الممتدة بين عام 2014 واليوم، تراجعت هذه الاستثمارات بمعدل 200 إلى 900 مليار دولار، سنوياً. ولكي تعوض عن هذا التراجع في القوى الاستثمارية عمدت إلى تسخير جزء كبير من فائضها المالي، إما لإعادة شراء أسهمها من الأسواق المالية، عن طريق عملية معروفة باسم «باي بيك»، أو لرفع الأرباح أمام مالكي أسهمها. عالمياً، وصل مجموع ما استثمرته الشركات في العام الفائت، لإعادة شراء أسهمها وإغراق حملة أسهمها بمزيد من الأرباح، إلى 1.5 تريليون دولار، ومن المتوقع أن يرسو هذا العام على 1.75 تريليون دولار.علاوة على ذلك، نرى أن صناديق الأسهم الخاصة «برايفت ايكويتي»، التي تستثمر بالأخص داخل تلك الشركات التي لا تواجد لها في البورصات، تتمتع اليوم بفائض مالي يتخطى تريليون دولار ولم يتم استثماره بعد في أي نشاط تجاري. كما وأن زبائن هذه الصناديق ومعظمهم من شركات التأمين وصناديق التقاعد وجدوا أنه من الضروري توطيد استثماراتهم في اتجاهات أخرى أفضلها البورصات العالمية، أي الأسواق التي أضحت قلعة محصنة في وجه أي تأثيرات خارجية خطيرة. ففي العام الحالي وحده، تم ضخ أكثر من 450 بليون دولار في البورصات الدولية، بمعنى آخر، لا تجد السيولة المالية النهرية، الآتية من المصارف المركزية إلا جهة مفضلة موحدة، هي البورصات.. لذا؛ لا عجب من مواصلة شراء الأسهم رغم المخاطر الجيوسياسية حول العالم، ومن ضمنها اندلاع الحروب في أي لحظة من اللحظات المقبلة، وفي أي مكان في العالم.
مشاركة :