«شيرين» لعباس كيارستمي: الدخول الغامض إلى لعبة الإبداع

  • 10/10/2017
  • 00:00
  • 16
  • 0
  • 0
news-picture

بأفلام مثل «أين بيت صديقي؟» و «طعم الكرز» وصولاً الى «نسخة طبق الأصل» و «عشرة» وغيرها، تمكن المخرج الإيراني عباس كيارستمي، الراحل في عز عطائه قبل فترة، من أن يجعل لنفسه وسينماه مكانة أساسية في حاضر السينما العالمية. لكنه بكتاباته حول السينما وبتجريبيته الفذة والفريدة من نوعها والتي أعادت الى الأذهان العصور الذهبية للتجريب السينمائي والكتابة حول الفن السابع، تمكن كذلك من أن يحفر لنفسه مكاناً في تاريخ التنظير للسينما كما لغيرها من الفنون. فكيارستمي كان واحداً من سادة التجريب عملياً ونظرياً في زمننا الراهن. ولئن كانت أفلامه الأكثر شعبية قد حظيت بتصفيق وإعجاب جمهور عريض في المهرجانات بخاصة في الصالات، حتى وإن لم ينعكس هذا النجاح تماماً داخل بلاده ولدى الجمهور الذي كان يفترض أن يكون الأكثر ارتباطاً به، فإن ثمة من بين أعماله أفلاماً تنتمي الى عالم السينما النخبوية الخالصة التي كان يحلو له فيها أن يجرب في الأشكال والأساليب، بل حتى في البحث عن وظيفة جديدة للسينما ووظيفة للقطة نفسها. وهنا قد نتوقف طويلاً عند تجريبية واحد من أجمل أفلامه وهو «عشرة»، لكننا بمقارنة هذا بنوع آخر من التجريب خاضه، سيبدو «عشرة» كلاسيكياً بل شعبياً حتى، على رغم كل ما فيه من تجريبية شكلية وموضوعاتية فذة. غير أننا سنتوقف في المقابل عند واحد من آخر أفلامه وهو ذاك الذي حققه في العام 2008 وبدا للذين شاهدوا ملصقه وقرأوا عنوانه قبل أن يروه، وكأنه فيلم عاطفي وتاريخي يستعيد حكاية تعود الى العصور الغابرة. > في الحقيقة، إن هذا كان صحيحاً في نهاية الأمر، كما كان غير صحيح. فالفيلم وعنوانه «شيرين» يستعيد حقاً تلك الحكاية العريقة التي تعتبر من مفاخر الأدب الفارسي، وهي عبارة عن قصيدة طويلة كتبت مرات ومرات على مدى التاريخ الفارسي متحدثة دائماً عن الغرام بين شيرين وخسرو. ويدور محورها الأساسي من حول تلك الحكاية التي تنتهي بتضحية شيرين بنفسها على مذبح الغرام المستحيل الذي عاشته وانتهى بدراما تكاد تشبه الدراما التي تنتهي إليها حكاية ليلى والمجنون المعروفة في الشعر العربي القديم، والتي كتبت كذلك بالفارسية ويمكن أن تكون في أصل «خسرو وشيرين». إذاً، يستعيد فيلم كيارستمي تلك الحكاية بالفعل، كما يمكن للملصق أن يكون قد وعدنا. غير أن المشكلة تبدأ حين يتفرس المرء بذلك الملصق ليكتشف في «بطولة» الفيلم عشرات الممثلات الإيرانيات وغير الإيرانيات المعروفات ونصف المعروفات وغير المعروفات حتى، فيتساءل عمّ جئن يفعلنه جميعهن في الفيلم القائم أصلاً على حكاية بطلة واحدة. يتساءل، ماذا تفعل نيكي كريمي أو ليلى حاتمي أو ماهتاب كاريماتي أو حتى غولشيفتى فرحاني، وعشرات غيرهن؟ بل سيزداد فضول ذلك المرء ويتساءل إذ يجد بين الأسماء اسم النجمة الكبيرة الفرنسية جولييت بينوش (التي لعبت دور البطولة في فيلم «نسخة طبق الأصل» الذي صوّره كيارستمي في إيطاليا مسجلاً دخوله الأول في عالم السينما الأوروبية حيذاك). غير أن مشاهدة الفيلم ستكشف سر ما يحدث: ستكشف أن شيرين وحكايتها وحبيبها الخسروي لا وجود لهم على شاشة كيارستمي وإن كان هذا الوجود يروى في أسلوب يتراوح بين الجدية الفجائعية والميلودراما المبتذلة على ألسنة عدد من الرواة من بينهم منوشهر اسماعيلي، كما من طريق أنغام موسيقية تراثية - أو بالأحرى، تاريخية، وفق توصيف النقاد الإيرانيين - تضفي على الأحداث غير المرئية على الشاشة طابعاً عاطفياً. والآن، ماذا نرى على الشاشة؟ > بكل بساطة: الانفعالات التي يتركها الفيلم المعروض خارج الشاشة، على أكثر من مئة امرأة يشاهدنه. وبالتالي فإن الفيلم يتألف من عدد كبير جداً من لقطات مكبرة يكتفي المخرج عبرها بتصوير تأثير مجرى أحداث الرواية/ القصيدة في المتفرجات. وبالنسبة الى كيارستمي كان من الواضح أن ما ينبغي أن يثير اهتمامنا حقاً في أي عمل تراثي أو أسطوري معروف، ليس ما يحدث فيه. فالحدث ماثل دائماً في الذاكرة وجماله ومشاركة المتلقي في تلقيه لا يكمنان في تصوير الحدث الذي بتصويره وتحويله من ملكوت المخيلة - حيث يشارك المتلقي في صنع الأحداث كما في تخيل أطرافها من دون أن تُفرض عليه سيماؤهم من خارج مخيلته- يفقد جزءاً أساسياً من فاعليته كحكي وموسيقى وسرد حواري. ومن هنا، فإن أي اقتباس لعمل أسطوري متداول، على شاشة تنقله من الحيز الحكائي الى الحيز البصري، يجب أن يتم من طريق الراوي وليس من طريق المؤدي المباشر. وهنا بالتحديد كمنت تجريبية كيارستمي في هذا الفيلم الغريب الذي لا يفعل طوال ساعة ونصف الساعة أكثر من تصوير التأثيرات التي تتركها الأحداث والحوارات متضافرة مع الموسيقى، من دون أن يكون شرطاً أن تترجم تلك الموسيقى أية انفعالات على الإطلاق، فدورها يقتصر على المساهمة في خلق الأجواء... في معظم الحالات. فكيف كانت النتيجة؟ > بكل بساطة، كانت عملاً سينمائياً استثنائياً غريباً من نوعه، يشاهد المتفرج خلاله وجوهاً مبتعدة أحياناً مقتربة أحيانا أخرى وهي تترجم مجموعة هائلة من الأحاسيس التي تتملك وجوهاً ونظرات نعرف بداهة أن صاحباتها يعرفن كل شيء عن الحكاية، لكن هذا لا يمنع تعبيرات وجوههن من أن تبدو صادقة وابتساماتهن حقيقية وبكاءهن يحمل بالفعل قدراً كبيراً من الشجن. والحقيقة أن عباس كيارستمي حين سألته الصحافة عن الأسباب التي دفعته الى اختيار ممثلات معروفات ومحترفات ليدرس على تضاريس وجوههن تلك الانفعالات التي كان يجازف بألا تظهر لديهن، طالما أنهن يعرفن الحكاية جيداً بل إن بعضهن سبق أن مثلن دور شيرين في أفلام أو مسلسلات أو حتى في أعمال إذاعية، كالنت إجابته واضحة: «لو أنني أتيت بسيدات عاديات ورصدت ردود فعلهن لكان الحزن والشجن والسرور أموراً طبيعية، لكني آثرت أن أذهب الى الحدود القصوى...». ومن الواضح ان تلك الحدود القصوى كانت آيتها تحديداً هذا التحدي الذي خاضه من خلال رصد ردود الفعل على سيماء الممثلات. ثم بعد ذلك، أو في خضمّه، الدفع باتجاه المقارنة بين انفعالات عشرات الممثلات الإيرانيات المعروفات - بل إن بعضهن معروفات بكونهن ممثلات كوميديات على الشاشات الصغيرة، ومع هذا دخلن ملكوت الدراما الشيرينية بكل صدق ومن دون تردد - وانفعالات جولييت بينوش التي خاضت «اللعبة» بأدائها العفوي مثبتة أن العواطف هي العواطف والانفعال هو الانفعال ولا فرق في هذا بين أن تكون المرأة شرقية أو غربية. أما بالنسبة الى كيارستمي فسيقول انه إنما شاء أيضاً من فيلمه أن يثبت أن الإنسان هو الإنسان والعاطفة هي العاطفة في كل زمان ومكان، ناسفاً تلك التأكيدات «الكولونيالية» التي ما توقفت عن ترداد أن «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا» وأن «الشرق روحاني والغرب مادي». والحقيقة أن المرء يخرج من عرض «شيرين» على الطريقة الكيارستمية، وهو يملك نظرة جديدة الى وحدة الإبداع في وحدة العاطفة البشرية. > طبعاً سيبدو من المغالاة هنا تحميل تجربة عباس كيارستمي هذه، والتي تبدو أول الأمر وكأنها نزوة مبدع لا أكثر، كل هذا القسط من المعاني، ولكن من المؤكد أن كيارستمي، وتحديداً بعدما انتهى من صنع هذا الفيلم «البسيط»، اكتشف، كما قد نكون فعلنا نحن معشر المتفرجين، كم يمكن لعمل فني أن «يفلت» في نهاية الأمر من يد صاحبه - وهنا بالمعنى الإيجابي للكلمة طبعاً - ليضحي محملاً بأفكار ومعانٍ لم يكن المبدع يقصدها في البداية. يبقى أن عباس كيارستمي الذي رحل، كما أشرنا، باكراً وكان لا يزال يحمل في جعبته عشرات الأفكار والتجارب، لم يكفّ طوال مسيرته في العمل السينمائي (ولكن كذلك في العمل المسرحي والإذاعي والأوبرالي وفي مجال التجهيز الفني والتصوير الفوتوغرافي بين ممارسات فنية متعددة أخرى ناهيك بكتابته الشعر والنصوص النثرية...)، لم يكفّ عن التجريب هو الذي كان يحلو له أن يقول أنه أبداً ما انطلق يحقق عملاً فنياً من أعماله وهو دار سلفاً بما الذي سيكون عليه هذا العمل، أو بكيف ستكون ردود الفعل عليه. وفي يقيننا أن «شيرين» يمكن أن يقدم لنا خير مثال على أسلوب كيارستمي الفذ هذا في الدنو من لعبة الإبداع...

مشاركة :